وثائق ومستندات شتاء 25 يناير (6) فى مراحيض الفلكى للأسف

عاطف عبد الغنى يكتب:

أنا هنا أكتب ما أعتقد أنه الحق، لأن حكايات المصريين الآن كثيرة وإن كنت أرى أن فى غالب هذه الكثرة ما يثير السخرية لكنها على الرغم من ذلك تشوش على أفهام الناس حين تخلط الحق بالباطل.
وفى السطور التالية، سوف أحكى لكم حكاية عن مدعى الحرية، وأرجو ألا تأخذكم الحكاية فى ذاتها ولكن أن تحاولوا الوصول بأفهامكم إلى ما وراء الحكاية.

في السنوات الخمس التي سبقت ثورة 25 يناير 2011، والخمس التي تلتها تقريبا، شهدت منطقة وسط البلد، وتحديدًا منطقة الفلكي بمحيط البورصة في قلب القاهرة، انتشارًا ملحوظًا لعدد من المقاهي التي جذبت فئة الشباب (تحديدا) من الجنسين، فى ظاهرة ملفتة للنظر، حيث زادت أعداد المقاهى وأعداد مرتاديها بشكل كبير، وبرزت كمراكز تجمع لشباب يمكن وصفهم بأتباع الفكر الليبرالي الجديد، وقيمه فى التحرر المفرط، وقد انعكس ذلك على سلوكهم الشخصى ومظهرهم، بدءًا من تسريحات الشعر وأنماط الملابس، إلى السلوكيات (وخاصة البنات) التى لم يعتادها عامة المصريين.

كما اشتهرت المنطقة ومقاهيها ورواداها، بأنها مقصدًا لبعض المجموعات ذات الطابع الفكري المختلف، حيث عُرف أحد المقاهي بأنه ملتقى للملحدين، حتى أن البعض أطلق عليه لقب “مقهى الملحدين”. هذا المقهى كان يقع في الطابق الأرضي من العقار رقم 61 في الشارع، وفقًا لتقرير نشرته جريدة الوطن بتاريخ الأحد 3 مايو 2015، وذكر التقرير أن بعض سكان المنطقة أكدوا تصريحات صادرة عن رئيس حي عابدين آنذاك، بأن المكان كان يستخدم لاجتماعات مجموعات وصفت بأنها من الملحدين وعبدة الشيطان.

هذه الخلفية تعتبر أساسية لوصف البيئة التي تدور فيها أحداث القصة الرئيسية في المقال التالي.

(1)

الحكاية بدأت مع هذا الشاب (لن أذكر اسمه لأنه لم يأذن لى بذلك) وكان يخوض تدريبا فى إحدى المؤسسات الصحفية، وفى نفس الوقت يعمل فى البورصة التى يقع مقرها فى منطقة الفلكى ويقسم وقته بين عمله هذا والصحافة التى يتمنى الانتساب إليها والعمل بها، وبسبب تردده على هذه المنطقة من وسط البلد قادته الظروف والأصدقاء إلى جمعية أهلية تحمل فى اسمها صفة الليبرالية والمصرية وتتوجه للشباب وتتخذ من إحدى الشقق المؤجرة فى عمارات هذه المنطقة مقرا لها.
كان السبب الرئيسى لزيارة هذا الشاب لمقر الجمعية هو التقدم لدورة تدريبية مدتها 3 أيام فى أحد الأنشطة التى تروج لها مثل هذه الجمعيات والتى تتلقى من ورائها التمويلات التى تقدمها منظمات الخارج، وهذه الأنشطة المعلنة تتركز فى الديمقراطية والمرأة، والإعلام.. إلى آخره.
ومنذ اللحظة الأولى التى وطأت فيها قدم الشاب مقر هذا الاتحاد أو الجمعية، صادف ممارسات لم ترُق له، استمارة للتعارف، أحاديث وأسئلة ضد العقائد الدينية والهوية الوطنية، كلام هز بوصلة الشاب فأشارت له على الفور إلى أن الاتجاه خاطئ، لكن فضوله دفعه للتردد على هذه الجمعية لمرات أخرى وفى كل مرة كان داخله يرفض توجهات القائمين عليها وزادت شكوكه عندما دخل «مرحاض» الجمعية ليقضى حاجته، فوجد فى ذات المكان الذى تعافه النفس صور زعماء ورؤساء مصريين وعرب وأجانب يعرف أكثرهم ويعرف أخلاقهم ووطنيتهم مهما اختلفنا معهم، ومنهم الزعيم المصرى الراحل جمال عبدالناصر، وسط صور أخرى للنازى أدولف هتلر والفاشيستى موسولينى والرئيس العراقى صدام حسين وزعماء ورؤساء الشيوعية العالمية ستالين ولينين وجورباتشوف، وبن لادن وغيرهم ، فقام الشاب بالتقاط صورة لهذا المنظر بكاميرا تليفونه المحمول وحمل استمارة التعارف ودستور الجمعية المطبوع فى عدة أوراق، وفى اليوم التالى ذهب بها إلى رئيس تحرير المطبوعة التى يتدرب فيها وهو يظن أنه وقع على صيد صحفى، فما كان من رئيس التحرير إلا أن تلقى منه الأوراق وصرفه بلطف (ملحوظة: رئيس التحرير هذا معروف عنه أنه من الشيوعيين راكبى موجة الليبرالية الجديدة وكان قبل 25 يناير أحد أعضاء لجنة السياسات فى الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل) ولما مر وقت ولم يصدر عن رئيس التحرير ما يشير إلى أن شيئا سوف ينشر عن الجمعية فى المطبوعة التى يتدرب فيها هذا الشاب، جاءنى وعرض على الأوراق وحدثنى عن أمر الجمعية ورئيس التحرير فأفهمته أن الأخير ومن واقع معرفتى بتوجهاته لن ينشر شيئا، لأن ما تتبناه مثل هذه الجمعيات من أفكار وأعمال يصب فى التوجهات التى يؤمن بها أمثاله المتحولون من الشيوعية إلى جنة رجال الأعمال واليمين الرأسمالى اللذين امتلكا مقدرات مصر خلال السنوات القليلة الماضية (الحوار كان قبل عام 2011) ينفذان سياسات الرأسمالية العالمية ويدفعان البلاد تجاه مشروع العولمة، وقد وجد رئيس التحرير هذا ضالته فيما يسمى بالفكر الجديد وفى البطانة التى كانت تقود الحزب الوطنى فى سنواته الأخيرة فانضم إلى جوقة المطبلين، وركب مع الراكبين موجة الفساد المقنن بعد أن حصل على منصب رئاسة التحرير بموهبته الفذة فى المداهنة والموالسة اللتين عوضتاه عن نقص المواهب الأخرى المطلوبة حتى لممارسة المهنة، ناهيك عن الترقى والصعود فيها، فكان بذلك واحدا من رؤساء تحرير عاصروه وكانوا مثله لا يمتلكون من المواهب إلا تسويق الضلال والتمهيد لمشروع التوريث.

(2)

عند هذا الحد انتهت حكاية الشاب المتدرب، أما الجمعية – التى حدثنى هذا الشاب عنها – فكنت أعرف شيئا غير معمق عن نشاطها قبل ذلك قرأته منشورا فى إحدى الصحف، لكن عندما طالعت أوراقها التى أعطانى أياها الشاب، وجدتها تحوى ضلالات فكرهم، وأفزعنى ما قرأت فهؤلاء الشبان الذين كونوا هذه الجمعية وحصلوا من وزارة الشئون الاجتماعية على تصريح بمزاولة نشاط أعلنوا أنه غير سياسى، منغمسون حتى الأذقان فى مزاولة السياسة، أو بمعنى أدق العمالة، والدعوة والعمل على تفكيك وإسقاط الدولة المصرية، ويتلقون لأجل هذا التمويل والدعم عشرات ومئات الآلاف من الدولارات واليورو.
وبحسب ما اكتشفته وهو معلن على موقع مؤسسة نيد (NED) فى قائمة من حصلوا على دعم مباشر من هذه المؤسسة الأخيرة فى عام 2009، حصلت هذه الجمعية على مبلغ 33300 دولار، أى ما يقرب من 175 ألف جنيه مصرى (بسعر الدولار فى تاريخ نشر هذا المقال لأول مرة فى 2011) والسبب المعلن لهذا التمويل حسب المصدر السابق التوسع فى استخدام أدوات الإعلام الجديدة أو البديلة من أجل ترويج الأفكار والقيم الليبرالية.

فما هى هذه الأفكار والقيم الليبرالية؟..

سوف أخبركم لكننى أريد أن أنبه إلى أن أموال (نيد) الأمريكية ليست التمويل الوحيد الذى تلقوه الشباب أصحاب هذه الجمعية، فقد تلقوا تمويلات أخرى من جهات أجنبية مثل مؤسسة المجتمع المفتوح (OSI) ومؤسسة أطلس للأبحاث الاقتصادية، وحصلوا على جائزة تمبلتون للحرية التى تبلغ قيمتها المادية 10 آلاف دولار، وبالطبع لا يعرف أحد فى مصرنا «المبتلية» بأمثال هؤلاء من هو تمبلتون هذا؟ وأية قيم أو أفكار تنشرها مؤسسته والجوائز الأخرى التى تمنحها مؤسسته وتزيد إحداها على قيمة جائزة نوبل الشهيرة «لا يقولون مثلا إن تمبلتون من أكبر المعادين للأديان وإنه داعم لحربها لا ينافسه فى ذلك سوى سورس الملياردير اليهودى الأمريكى الشهير، وكلاهما من الداعمين لمبادرات توحيد الأديان لاختراع دين عالمى هجين من طقوس الروحانية والعبادات والعقائد الوثنية.. هذا موضوع أخر.
وقد ذهب وفد من شباب هذه الجمعية الليبرالى إلى إحدى الدول الغربية واستلم الجائزة وتناول عشاء الحرية الذى نظمته مؤسسة “أطلس” مانحة الجائزة، واجتمعوا بأشباههم وأقرانهم على مستوى العالم، وخلال تناول العشاء قرعوا كئوس الشراب على جثة العقيدة وهوية الوطن.

(3)

ولا يخلو أمر هذه الجمعيات وأشباهها من فضائح تمتلئ بها المدونات الشخصية ويمكنك أن تقرأ ما كتبه محمود إبراهيم فى مدونته: «مصر اللى بحبها» عن هذه الجمعية أو الاتحاد الذى ساهم فى البداية فى تأسيسها : «تصحى الصبح توقع على بيان تأسيس تكتشف أنه له ملحق أهداف ولا تعرف عنه أى حاجة ويقولون لك توقيعك على البيان التأسيسى بالضرورة توقيع على الأهداف من غير ما تعرفها، فجأة ناس تقرر أنها تتعاون مع منظمات تمويل من الخارج سبوبة بالمصطلح البلدى وتلاقى إنه فى غداء تم مع المؤسسات الممولة واتفاقات على شغل ومنح وعطايا (وما خفى كان أعظم) ولا تعرف كل ده اللى لما السبوبة تتظبط وكل واحد ياخد نصيبه منها وهقول بعد شوية النصيب إيه».
وفى فقرة تالية يكتب نفس الشخص:«هتلاقى كمان بيانات بتطلع (يقصد بتصدر) مجرد واحد يبعتها واتنين يوافقوا تخرج باسم 20 واحد»، وعن شروط قبول الأعضاء الجدد: «عشان يبقى فيه شفافية يعملوا جنب الجنسية فى استمارة أو بطاقة العضوية خانة يتكتب فيها شيوعى قومى إسلامى ليبرالى بس هتبقى مشكلة لو واحد طلّع بطاقة ليبرالى ومش ملتزم بالمبادئ الليبرالية» .
وتتوالى التعليقات على ما يذكره العضو المؤسس قبل انفصاله لتكشف كثرة أخرى من الممارسات التى تفضح الأمر وتؤكد أنه فى بدايته كان مجرد تظبيطات لـ «سبوبة» .

(4)

هكذا كانت تبدأ مثل هذه الاتحادات والجمعيات الأهلية نشاطها، كما أعرف ويعرف كثيرون من الصحفيين والإعلاميين والمنخرطين فيها أنفسهم، إنها مجرد مجال للارتزاق من الأجانب الذين يمنحون التمويلات، ومع الوقت والانفتاح على كنوز مغارة التمويل تتحول المسألة إلى حرفة وتتكون كيانات تجر خلفها أو تدفع أمامها قطيعا من المغرر بهم وأكثرهم من الشباب قليل الخبرة.

ويكفى الاطلاع على دستور هذه الجمعية أو الاتحاد قبل تخفيفه وتنقيحه فى نسخته الإلكترونية، لتكشف أنهم يدعون لتكوين جماعات ضغط تهدف إلى خلق دولة الحد الأدنى أو بعبارة أخرى إسقاط سلطة الدولة بالكامل عن الإعلام والثقافة والدين ومؤسساتها الاقتصادية والخدمات، وإنهم ضد مفاهيم الأمة والصف الوطنى ومصلحة مصر العليا والعدالة الاجتماعية ونظرية المؤامرة لأنهم يعتبرونها محاولة للفرار من المسئولية الاجتماعية وضد كافة أشكال معاداة السامية – كما يعلنون فى أوراقهم – ويعتبرون معاداة السامية الركيزة الرئيسية التى تأسست عليها الشمولية المصرية.

(5)

وعن نفس الجمعية، وما يحدث فيها كتب أحمد عبد القوى موضوعا نشره فى مجلة “حقى” وهى أحدى مشاريع تخرج طلبة كلية الإعلام دفعة 2010 ونقل الأخير – فى موضوعه عن أحد الذين خاضوا من خلال هذه الجمعية دورة تدريبية – الآتى: «حاولوا إقناع المتدربين بأن اليهود لهم حق فى فلسطين وأن الحرب بينهم حرب أهلية لأنها بين شعبين لهما نفس الحقوق فى الأراضى الفلسطينية ووجوب التطبيع مع إسرائيل».
وما سبق عينة أخرى من أفكارهم التى تدعو إلى «قبول الآخر» والأفصاح عمن يكون هذا الآخر الذى تدعو  الجمعية والليبراليون الجدد لقبوله أو على الأقل تمريره إلى بلادنا مرحليا.

ملحوظة أخيرة: المقال السابق نشر لأول مرة – في مجلة “أكتوبر” بتاريخ 09 – 10 – 2011 تحت عنوان: “القصة من الشاطئ الآخر (9): يحدث فى ميدان الفلكى”، ونعيد نشره ببعض التصرف الآن لأن فكر المخطط الذى لم يتغير، والذى يتغير الأساليب فقط.

اقرأ أيضا فى هذه السلسلة:

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى