محمد أنور يكتب: السيرة النبوية المختصرة (محمد صلى الله عليه وسلم).. (2 من 6)
بيان
مرت الأيام ونفد دمع آمنة بنت وهب، وجفّت عيناها. كان حزنها يشبه شجرة تنمو مع العطش، وراح الحزن يكبر يومًا بعد يوم.
اقترب موعد ولادتها، واقترب زحف أبرهة بجيشه نحو مكة. كان جيش أبرهة يضم مجموعة من الفيلة الضخمة الشرسة التي كانوا يستخدمونها كما نستخدم الدبابات في هذه الأيام. اعترض جيش أبرهة رجلٌ من أشراف أهل اليمن وملوكه، اسمه ذو نُفَر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى محاربة أبرهة والدفاع عن البيت الحرام. التقى أبرهة بهذا الجيش، فانهزمت القلة الشجاعة أمام الكثرة الكافرة، وانكسر ذو نفر وسار أسيرًا في يد أبرهة.
واعترض جيش أبرهة نُفيل بن حبيب الخثعمي مع قبيلتين من قبائل العرب، ومعهما عدد كبير من العرب، فهزمهم أبرهة وأسر نفيل بن حبيب.
ولما كان أبرهة في طريقه بين الطائف ومكة، بعث قائدًا من قواده حتى انتهى إلى مكة، وهناك اغتصب أموالًا من قريش وغيرهم. كان من بين ما اغتصبه مئتا بعير لعبد المطلب بن هاشم، وكان يومئذ كبير قريش وسيدها وصاحب بئر زمزم.
وانطلقت أخبار جيش أبرهة في الجزيرة العربية بأنه الجيش الذي لا يُقهر، ثم بعث أبرهة رسولًا إلى مكة يحمل رسالة تقول: إن الملك لم يأتِ لحربهم، وإنما جاء لهدم البيت الحرام، فإن لم يتعرضوا له، فلا حاجة له في دمائهم.
اكتفى رسول أبرهة بلقاء عبد المطلب، وحدثه عن نوايا الملك. فقال عبد المطلب:
“والله ما نريد حربه، وما لنا طاقة بذلك. هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلِّ بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفاع عنه.”
انهالت السياط على الفيلة التي تتقدم جيش أبرهة، وأمرت الملائكة الفيلة أن تتجمد مكانها، فأطاعت، وازداد الضرب قسوة وشدة، فازدادت الفيلة تثاقلًا في الأرض أكثر وأكثر، وكانت ترتعش في مكانها وتصرخ، لكنها رفضت أن تتحرك حركة واحدة.
كانت الشمس مشرقة، وأبرهة يجلس في خيمته. فلما خرج، وجد الشمس تحجبها سحابة من الطيور الزاحفة. رفع أبرهة رأسه إلى السماء، فخُيِّل إليه في بداية الأمر أنه يواجه سحابة سوداء، ثم دقق النظر، فاكتشف أنه أمام طيور تسد ضوء الشمس وتشبه السحابة في تكاثفها.
طير أبابيل، طيورٌ كثيرة متعاقبة، لا تبدو لها نهاية. ازداد صراخ الفيلة ورعبها، وسرى الرعب إلى الجيش كله. وصرخ أبرهة في جيشه بأن يتجاوز الفيلة ويتقدم.
تقدمت الطيور وانفتحت نافذة من نوافذ الجحيم، وأخذت الطيور تقذف الجيش بحجارة من سجيل، نفس الحجارة التي ألقيت على قوم لوط عليه السلام، وكانت ذات أثر مدمر يشبه أثر القنابل الذرية اليوم.
تفكك الجيش كله، وانشق صدر أبرهة ومات، وتناثرت أجساد الجنود كعصف مأكول. وبعد نصف قرن، نزلت في مكة سورة تقص هذا النبأ كله، وهي “سورة الفيل”.
حمى رب الكعبة بيته الحرام ليكون مثابة للناس وأمنًا، وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة، التي ستنطلق منه حرة طليقة نحو أرض حرة آمنة، لا يُهيمن عليها أحد من الخارج، ولا تسيطر عليها حكومة ظالمة.
وذلك لأن في بيت من بيوت مكة، كان هناك جنين لم يُولد بعد. أمه آمنة بنت وهب، وأبوه عبد الله بن عبد المطلب من سادات العرب.
وسط أفراح مكة بنجاتها ونجاة الكعبة، رأت آمنة بنت وهب حلمًا ذات ليلة، شاهدت فيه نفسها تقف وحدها وسط الصحراء، وقد خرج منها نور عظيم أضاء المشرق والمغرب، وامتد حتى السماء.
استيقظت آمنة من نومها دون أن تعرف تفسير رؤياها، ولم تعش حتى تعرف تفسيرها.
مرت أيام وأيام من عام الفيل، وفي وقت السحر من ليلة الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، ولدت آمنة بنت وهب طفلها اليتيم:
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، حفيد إسماعيل بن إبراهيم بن آدم.
كانت الدنيا تموت عطشًا إليه قبل أن يولد، وكان عطشها إليه عظيمًا، عطشها إلى الحب والرحمة والعدالة.
كان الظلام يزداد في كل بقعة من الأرض، وتحولت الحياة إلى غابة كئيبة، يضرب فيها القويُّ الضعيف، وينتصر فيها الشر على الخير، ويعبد فيها العقل قطع الحجارة، أو يعبد الخوف الذي يلقيه الطغاة في قلبه.
وفي هذا الجو، ولد في خيام مكة طفلٌ. وفي اللحظة التي وُلد فيها هذا الطفل العربي، انطفأت النار المعبودة في معابد الفرس، وجفّت بحيرة ساوة المقدسة، وسقطت أربع عشرة شرفة من قصر كسرى، وأحس الشيطان أن ألمًا هائلًا يمزق قلبه.