محمد قدرى حلاوة يكتب: « حضن الكمان »

بيان

أطلّ علينا من بعيد بمظهره الغريب… قصير القامة… أحدب الظهر… مهوش الشعر… يعرج بقدمه اليمنى… كانت حقيبة ظهره تزيده ثقلًا وحدبًا… يحمل بيده اليمنى علبة خشبية تحتوي “كمانه” الأثير.

في الصغر نفترض الكمال في كل شيء… في المظهر والهيئة والشكل والجسد… ربما لا نتعلم فضيلة الاختلاف وحكمته في هذا السن الصغير، لذا فقد بدا لنا “ماجد” مخلوقًا غريبًا غير مألوف، يطل علينا من إحدى قصص الأساطير القديمة… ولاح لنا الأمر مثيرًا للشفقة حينًا، وداعيًا للسخرية في كثير من الأحيان… لم نكن ندرك حينها كيف يمكن أن تسبب الكلمة جراحًا عميقة، تمامًا كما يمكنها أن تكون بلسمًا شافيًا.

كان يتلعثم عندما يتكلم، ويظل يعافر لنطق الكلمات كأنه يزيح حجرًا ثقيلًا يتعثر به لسانه… ربما لهذا لم يكن يتحدث إلا قليلًا، ويظل جالسًا معنا بالساعات صامتًا، يستمع ولا ينبس ببنت شفة… حتى عندما كنا نسأله عن رأيه في موضوع ما، كان يكتفي بهزّ رأسه إيماءً بالرفض أو الموافقة، أو الإشاحة بيده ومطّ شفتيه بما يشي بجهله بالإجابة… وكان لهذا السبب تحديدًا صديقًا مقربًا منا جميعًا… نفضي إليه بما يجيش في صدورنا ونظل نتحدث دون مقاطعة… أحيانًا فإن كل ما يحتاج إليه المرء هو أن يفيض بما يثقل وجدانه ويتحدث به… فقط يتكلم دون انتظار رأي أو مشورة… نشعر بالراحة عندما يستمع إلينا أحد ويتفهمنا، حتى لو كان ذلك بإيماءة من الرأس أو إشاحة يد.

في “حصة” الموسيقى، كان ينطق بما لا نستطيع نحن النطق به… عندما يحتضن “كمانه” ويتحرك قوسه على الأوتار، ينساب عطر أنغام شجية عذبة، تملأ الأجواء عبقًا وسحرًا خاصًا… كنا نصمت نحن حينها وننصت، ويتكلم هو بنغماته، منتزعًا صيحات الإعجاب والتصفيق بعد أن ينتهي، ناظرًا إلينا بخجل وقد احتضن “كمانه” وملامحه تَشي بالعرفان والامتنان… حروف الموسيقى شكّل منها كلماته، و**”سلمها”** كان طريقه للصعود نحو التحليق في السماء… كل معزوفة هي قطعة من روحه، انطلاقته ولعبه ولهوه… صوته الفصيح وصرخته البليغة دون تلعثم أو عثرة… وبدت بعض نغماته وكأن قوسه سكينٌ يذبح الأوتار الحزينة، ويبث في الأجواء ألمًا مكتومًا عاجزًا عن إيجاد الحروف لتتشكل كلمة وصرخة تنطلق في رحب الفضاء.

في الحفلات المدرسية، كان هو “المايسترو”… ينزاح الستار عن الفرقة العازفة، فيظهر جالسًا على كرسيه، يعزف الكمان، ويشير بيديه للعازفين بحركات مدروسة… كانت لحظات عزفه الفردي تشعل الحضور تصفيقًا وهتافًا، وعندما يقف لتحية الجماهير، لا يمكنك أن تلمح فيه حدبًا ولا قصر قامة… يبدو حينها عملاقًا شامخًا، ويظل يشير بيده إلى قلبه ممتنًا، إلى أن يُسدل الستار وينصرف بعدها محتضنًا “كمانه”.

غَفَل يومًا في الحافلة وهو في طريقه إلى منزله، وعندما استيقظ لم يجد “الكمان”… سرقه أحدهم… سكنته ملامح الذبول لأيام عدة، وبدت الدموع حبيسة في عينيه… انزوى وترك مجلسنا، وآثر أن يجلس وحيدًا… كثيرًا ما حاولنا أن نتحدث معه، إلا أنه كان يتهرب منا بلطف… لقد فقد صوته الذي يحدثنا به… ظلّ على هذا الحال، إلى أن اقتنى “كمانًا” جديدًا… عادت إليه الحياة وتجددت فيه الروح… بدت الأوتار وكأنها الشرايين التي تمد قلبه بالدماء والنبض… ولاح القوس كأنه لسانه الذي يتحدث عازفًا… قد تتلخص الحياة في بضعة أشياء… في الكلمة… في اللحن والنغم… وعاد يعزف من جديد… عاد يتكلم ونصمت منصتين…

“عيني رأت مولود على كتف أمه…
يصرخ تهنن فيه، يصرخ تضمه…
يصرخ تقول يا بني ما تنطق كلام…
دا اللي ميتكلمش يا كتر همه…

عجبي…”
(صلاح جاهين)

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى