محمد قدرى حلاوة يكتب: «.. وصيد السمك غية »

بيان

(١)

أنا واحد من أهل المدينة، من أهل العاصمة، واحد من عشرات الملايين، مجرد رقم مجهري ضائع في منحنى بياني جاف وعريض. واحد من هؤلاء الذين يُوصفون بأبناء الطبقة الوسطى، تلك الطبقة الأحفورية المنقرضة التي تدل عليها آثارها، ولا قرينة حقيقية تثبت وجودها وكينونتها. فرد من هؤلاء الذين لا يصلون أبدًا ولا يتوهون بالكلية، لسنا في المنتصف، ولكننا على الأطراف والحواف، نتشبث بيد حتى لا نسقط إلى ما هو أدنى، ونعافر بالأخرى حتى نسمو إلى الأعلى. نحن شيء مائع، لا نحن هذا ولا ذاك، لا الوصف ولا نقيضه.

أصحاب الياقات البيضاء الحمقى، الذين ظنوا أن العلم والمهنة والوظيفة طريق معبّد للحياة الآمنة الميسَّرة السبل. واحد من هؤلاء الذين اعتقدوا أن الفكر والعقل أشياء مقدسة ثمينة، ثم استيقظوا فجأة من شراك الوهم بعد فوات الأوان. نظل نكافح ونكدح بلا نهاية، وبلا هدف أيضًا. كل ما وعيناه هراء، وجلُّ ما تعلمناه قشور وهباء. هناك قيم ومعايير أخرى تحكم مجرى الحياة، وهناك موازين وكفّات ثانية يخف أو يثقل بها وزن البشر.

أنا واحد من طوفان بشرٍ يظل حلمهم لحظات من السكينة والهدوء، يسرقونها من دوران آلة حياةٍ قاسية طاحنة، يستلونها من أيام مكرورة وأحلام مبتورة. عندما يأتي الصيف، نظل نحلم بالبحر، نلجأ إليه هاربين من الهموم والوهن اللذين سكنا الروح وأصابا الجسد. نظل نوفر ونقتطع من قوتنا حتى نستمتع بأيام معدودة من السكينة والهواء النقي ومظهر البحر الفاتن.

يومًا بعد يوم، يصير الأمر أصعب وأشق، حتى البحر حجَبوه وحاصروه بالأسوار! منذ متى صار البحر ملكًا خاصًّا، والهواء عطاءً وإنعامًا؟ لكننا نتغلب على كل ذلك، ونبحث عن ركن أو منفذ لم يصبح ملك السادة بعد، ربما لم يرق لأعينهم، وقد يكونون قد غفلوا عنه وسهوا. إذن، فلنغتنم الفرصة السانحة والمكرمة المنعمة، ونستمتع سويعات بالبحر، قبل أن يصبح هو الآخر أملًا وحلمًا قاصيًا. لنعود بعدها كالسائمة، نجرّ السواقي، حالمين من جديد بالعودة إليه (البحر)، والتأمل في سحره وتجدد الحياة بالأمل والهواء المنعش.

(2)

كانت الساعات الأولى للفجر قد لاحت، وبدأت الشمس تصحو من سباتها اليومي كأنها صاعدة من أعماق البحر، تغتسل مستعدة لإشراقة يوم جديد. مشهد ساحر تزيد من غوايته نسمات الفجر الباردة، وهي تنشر عبقها الممزوج برائحة البحر النافذة إلى أعماق الروح، كأنك عدت إلى زمان الخلق الأول، حيث لا صراع ولا ضجيج، ولا تشوّه اقترفناه بأيدينا ودمار ما زلنا سادرين فيه.

صوت هدير الموج يتسلل رائقًا إلى الآذان، لم تطغَ عليه أصوات آلات التنبيه بعد. خرير الماء السارب بين الصخور بدا كأنه آلات وترية حزينة تثير الشجن في خلفية سيمفونية جوقة أصوات الطبيعة بنقائها وسحرها الخلاب. موج متلاحق يُلقي بنفسه بعنف على الصخور القاسية، متشظيًا إلى قطرات ماء صغيرة، تبث على الوجوه الشاردة كنفثات العطر، مانحة إياها إحساسًا طاغيًا بالنقاء والتجدد. يعود الموج ملمْلمًا بقاياه، مضمّدًا جراحه، ليمضي نحو البحر من جديد في حركة سرمدية لا تنتهي ولا تتوقف.

كثيرون منا مثل موج البحر، يندفعون نحو الشاطئ متوهمين الوصول ونيل أضغاث هدأة السكينة والراحة، ثم ما يلبثون أن يعودوا بقايا محطمة نحو هدير حركة الحياة من جديد. بضعة طيور نوارس بيضاء تُطلق أصواتها المميزة وهي تحلق فوق البحر، ثم تنقض فجأة لتلتقط سمكة غافلة لاهية، ترتعد بين منقارها في رقصة الموت الأخيرة… لا فائدة ولا أمل في النجاة، لكنه حب الحياة ومقارعة الموت العابثة، والأمل الزائف في إيقاف حتمه أو تأجيل ساعة حصاده وحسمه.

زبد أبيض جفاء، لا دور له في المشهد سوى إضفاء لون ريشة بيضاء على صفحة زرقاء تبدو بلا نهاية ولا مدى. نفاذ الرائحة الملحية المخترقة للأنوف والصدور يشعرك، وأنت تقف متأملًا شارداً، أنك سيد هذا العالم الغامض. ولادة جديدة من رحم الحياة، واستكانة لحظات من دوامتها ورحاها، يسلبها المرء ويستلها من واقعه المنهك كلما حظي بزيارة جديدة إلى البحر، ونال منه حظوة القرب والقبول، ونهل من كؤوس السحر والغواية.

منذ الصغر، أخاف وأخشى البحر في ساعات ظلامه، يبدو ثائرًا أكثر، وأشد عنفًا وقسوة. يلوح حينها أنه أعمق أغوارًا وغموضًا، غيابات الموج والهدير والظلام تمنحه رهبة وهيبة. ربما لأنني لا أعرف العوم، ولا أجيد مقاومة الموج وخوض غماره ومقارعة مخاضه؟ ربما… وأعلم أكثر أن هدأته وسكونه وصفحته الساكنة لا بد لها من لحظات ثورة تعصف بكل شيء في طريقها، ولا تبقي ولا تذر. الهدوء والصمت أحيانًا يكونان مقدمة الفيضان، فليحذر كل سادرٍ ولاهٍ وعابثٍ من غضبته إذاً.

(3)

أخذت في إعداد “الصنارة” للصيد. لم تكن لدي سوى “بوصة” طويلة، لا أملك “صنارة مكنة” بعد. نظرت حولي لأتخذ مكانًا هادئًا أمارس فيه هوايتي. رمقني أحدهم بابتسامة ساخرة وقد ثبت ماكينته للصيد، وأخذ ينفث دخان سيجارته وكأنه يتساءل: ماذا يفعل هذا الأحمق هنا “ببوصته”؟ لم أهتم به وبأمثاله من المتفاخرين المتباهين.

وجدت رجلًا عجوزًا يجلس مع ابنه الشاب الصغير في جانب قصي على إحدى الصخور البارزة، فجلست بالقرب منه. شرعت في تثبيت طُعم “الجمبري” في “الشص”، وسرحت أتأمل في الرجل العجوز. بدا أنه في العقد السابع من عمره، ضئيل الحجم يجلس القرفصاء. تدلت سيجارته بين شفتيه المرتعشتين، بينما يقبض بيديه على “صنارته”. كانت أنفه معقوفة كآلهة الإغريق القدماء، وعيناه شاخصتين في المدى، لا تدري هل يتابع حركة صيده أم هو شارد في أعماق الفكر والذكريات.

يرتدي قبعة ثقيلة لا تناسب حرارة الجو، وقميصًا وبنطالًا بلون البحر، بدا وكأنه جزء منه، أو أن البحر قد ألقاه على الصخور وغفا عنه، ولم يعد لأحضانه مع بقايا الموج المهزوم. كان ينتعل صندلًا أبيض بدت منه أصابع قدميه المتشققة، تحكي قصة سعي وكدح وشقاء مرئية مسموعة. وجهه متورد بلون وجوه أهل السواحل الأسمر، بلمسة محمرة مميزة. بينما ابنه بدا شابًا وسيمًا حسن الهندام، فارع الطول. كان مشغولًا بنصب شبكة بين الصخور، ومراقبة السمك الساقط في شركها، وجمعه في سلة كبيرة من الخوص بين الحين والآخر.

أخذ العجوز في التنبه أكثر، يرخي الحبل ويشده بصبر وهدوء وثبات، مديرًا ماكينته للأمام والوراء بدقة ومهارة. شد الخيط بخفة ودراية وقوة، ولمعت سمكة فضية كبيرة في الهواء، وهي تزحف فيه نحو الشاطئ متعلقة بالحبل. كانت تتلوى وهي تغادر عالمها للمرة الأخيرة، ماضية إلى مصير مجهول. هل كانت تشعر بالندم عندما لاكت الطعم المغري، أم أن الجوع انتابها وكان أشد وأنكى؟

أخذ العجوز يخلصها من “الشص” بهدوء وحرفية، كأنه أراد تخليصها من ألمها. توقفت السمكة عن الارتعاد وهي تُلقى في السلة، ربما علمت مصيرها الآن. لاحظ العجوز اهتمامي ومراقبتي له، فقال بصوت مبحوح وبلهجة لطيفة: “دي سمكة قاروص.. مع إنه مش أوانها”. وكانت تلك الجملة بداية لحديث طويل شائق، لا يخلو من شجن، بدا أنه صيدي الحقيقي الذي حققته ذلك اليوم، رغم “بوصتي” المتواضعة ونظرات ذاك المتغطرس.

(4)

استطعت صيد سمكة صغيرة، ولم أستطع تخليصها من “الشص” سوى بعد أن سببت لها جراحًا وألمًا، وبالطبع كنت آسفًا. نظر إليّ العجوز وهو يبتسم، آخذًا في شرح طريقة تخليص السمكة من السن الحاد.

اكتشفت فجأة أنني لم أحضر معي سلة لوضع أسراب السمك الساقطة في فخ “بوصتي”. ضحك العجوز وهو يناولني كيسًا من البلاستيك لأضع فيه صيدي، وقال لي: “أحسن لك تجيب لك مكنة.. أنا عارف إنها غليت.. السمك الكبير بيعيش جوه، مش على الشط.. كلما تبعد أكتر تجيب سمك أكبر”.

ابتسمت له قائلًا: “شكلك قديم يا حاج في الصيد”. عاد بنظره إلى أعماق المدى سائحًا وهو يقول: “الصيد يا ابني ده عمري ومهنتي ومهنة أبويا وأجدادي ومشواري.. زمان كنا نطلع بالشهور في البحر بالمراكب الكبيرة.. مكنّاش بنبقى عارفين راجعين تاني ولا مش راجعين. ابني الكبير، الله يرحمه، راح ومرجعش.. البحر يا ابني زي ما بيدي، زي ما بياخد.. بس التمن بيبقى غالي قوي.. يا ما بلع ناس وأحباب”.

وبينما كنت أتابع صوت خرفشات الكيس البلاستيكي وصيدي الثمين ينتفض انتفاضته الأخيرة، استطرد قائلًا: “دلوقتي أنا معدتش بأطلع البحر.. صحتي مبقتش تستحمل.. ساعات نروح في الشتاء لقرايبنا في سوهاج.. نطلع معاهم في النيل.. النيل أحنّ من البحر.. أنا وابني هاشم (مشيرًا إلى ابنه الذي كان منهمكًا في متابعة الشبكة).. بنروح كل حتة سوا.. رجلي على رجله.. سبته في العلم مش هأسيبه للبحر يخطفه مني زي أخوه.. دلوقتي، ما شاء الله، خلص علم وبقى مهندس قد الدنيا.. مش مخلّيني محتاج حاجة أنا وإخواته وأمه.. أنا بأصطاد دلوقتي، تقدر تقول هواية.. صيد السمك غية.. يمكن الصيد هو اللي بيخليني أحس إني لسه عايش.. ده عمري كله.. بأفتكر كل حاجة مرت في حياتي وأنا قاعد قدام البحر بأصطاد.. ومأعرفش ليه بأفتكر الحاجات البعيدة أكتر من القريبة.. يمكن كانت الحياة أحلى، والناس كانت ناس.. ويمكن خلاص مش فاضل إلا القليل، فبنرجع للأول تاني”.

كانت الشمس قد بزغت ونشرت أشعتها الحارقة تخترق الجسد، فأستأذنته منصرفًا، وعندما صافحته شدّ على يدي قائلًا: “شكلك غريب عن هنا.. أخوك صالح.. لو عوزت أي حاجة، اسأل بحري كله عن صالح الصياد، ألف من يدلك”.

وبينما كنت أمضي مغادرًا، التفتُّ إلى عم “صالح” من بعيد ناظرًا إليه.. كان قد عاد شاخصًا ببصره إلى المدى والذكريات. وتساءلت: لماذا حقًا نتذكر أيامنا الأولى البعيدة بأشخاصها وتفاصيلها ورائحتها، وننسى أيامنا القريبة حتى الأمس؟ هل هي دلالة اقتراب دنو الأجل كما قال؟

انتبهت إلى صيدي الثمين القابض عليه بيدي.. كانت قد سكنت حركتها وكفّت عن محاولتها الحمقاء في مقاومة المصير الأخير. وهل كانت ثمة جدوى؟ ألم يكن من الأفضل أن أعيدها إلى أحضان البحر؟ أم تغلّبت مشاعر الفخر الإنساني بالظفر والقنص والانتصارات الصغيرة؟ على أية حال، فقد كانت حتمًا ستلاقي مصيرها وقدرها على يد إنسان آخر، أو ملتهمة من السمك الكبير.. إنها قواعد الحياة القاسية.. كبار يلتهمون الصغار، وصغار يلوكون الأصغر، وهكذا تمضي دورة الحياة لتصل إلى مرفئها الأخير.

اقرأ أيضا للكاتب:

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى