محمد قدرى حلاوة يكتب: « دنيا »

بيان
(١)
شاء لي القدر أن أطالع وجهه كل يوم في طريق عودتي إلى منزلي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.. ” المعلم حمزة”
” فتوة” موقف العباسية..سمه ماشئت ” فتوة” ” بلطجي” “معلم”.. كلها مسميات لمهنة يمارس فيها فردا سطوته ويفرض كلمته على الجميع ويعاونه في ذلك بضعة أتباع ( صبيان) يأتمرون بأمره وينفذون مشيئته ( يبدو مسمى ” فتوة” أكثر رقيا ربما تأثرا بروايات نجيب محفوظ وبذات القدر” معلم” وأكثرهم سوءا في الدلالة والرمز لفظ” بلطجي “).. كان ” المعلم حمزة” شابا في عقده الخامس.. طويل القامة قوي البنية.. ممتلئ الوجه.. عريض الجسد ذو بدانة لافتة.. يرتدي ملابس غالية الثمن رديئة الذوق.. بدا جسده كأنه واجهة حانوت لبيع الذهب. أصابعه.. صدره.. معصمه.. كلها مرصعة ومثقلة به.. يجلس أمام الموقف على كرسي خشبي يدخن الشيشة ويراقب حركة الميدان حوله بنظرات حادة.. ولا يكف عن البصق والشتائم وسب الدين.. وأمامه منضدة صغيرة ممتلئة بالطعام وعلب السجائر المستوردة وأكواب الشاي وفناجين القهوة.. . كل ذلك يأتي بها أصحاب الحوانيت المنتشرة في الميدان دون مقابل سوي نيل رضاؤه وإتقاء شره… بدا أنه واحدا من أساطين تلك المهنة الغامضة جمع ” الكارتة”.. (بضعة أشخاص يستوقفون سيارات الميكروباص المارون بالموقف ويحصلون منهم مبالغ مالية دون أي خدمة حقيقية أو إيصالات دالة على الدفع… فقط لأنهم تركوا السائقين” يحملون ” الركاب من الموقف) .. عصبة تتميز بالملامح الشرسة والصلافة والحدة وسلاطة اللسان.. غالبا ما يتمتعون بالأجساد القوية أو تاريخا إجراميا أهلهم لممارسة هكذا مهنة.. يتوخي السائقون حذرهم منهم ويؤثرون السلامة ويدفعون ” المعلوم” بإبتسامة رضا عميقة و ” رشة” سجائر” للفتوة” و “، صبيانه”.. يمكن للبعض بالطبع أن يرفض الدفع لكن عليه أن يتحمل حينها العواقب وأقلها أو أكثرها سلامة هي أن يغادر هذا الموقف فورا.. ولا يخلو الأمر من بضعة صفعات ونصيبا من الشتائم المقذعة وسب الدين وملابس ممزقة… وبدت بعض العلاقات الغامضة”، للمعلم حمزة ” برجال الأمن الذين يتركونه يرتع ويمارس سطوته كيفما شاء.. وتداول العامة القول سرا بأنه يعمل ” مرشدا”.. كما أن موسم الإنتخابات مناسبة ذهبية حيث يستعين به بعض المرشحين في تمزيق دعاية منافسيهم أو إفساد و ” تقفيل” سرادق إنتخابي خاص بهم.. وكذلك توفير” الميكروباصات” لحشد الناخبين.. وزاد الناس قولا على قول بأن فلانا عضو مجلس الشعب يحميه ولا يسمح لأحد بالإقتراب منه..فهو رجله وذراعه اليمني وخصوصا في تنفيذ المهام “القذرة”.
(2)
منذ نحو عقد أتهم ” عم حمزة” بإرتكاب جريمة قتل حين طعن سائقا في إحدى المشاجرات لقى على أثرها حتفه..وحكم عليه بالسجن عشرة سنوات وأختفي تماما من الميدان والموقف.. رأيته اليوم بعد كل تلك السنوات .. بدا هزيلا شاحبا فقد من وزنه عشرات الكيلو جرامات..لعله المرض أو التجربة القاسية التي مر بها.. غزا الشيب رأسه وذقنه وصار مثل الرجل الثلجي.. لكنه ظل محتفظا بذات الشراسة والبذاءة و فحش القول وسب الدين وعادة السعال و البصق التي لا تفارقه.. وظل يستوقف السيارات ليجمع ” الكارتة” جاهرا بأقذع الألفاظ.. لكنه هذه المرة عندما دار الزمن دورته كان يحتل موقع التابع.. واحدا من ” الصبيان”.. بينما يقبع على الكرسي ” معلم” جديد.. مراقبا الموقف ومتابعا للمشهد ويتدخل في الوقت المناسب لفرض الإنضباط وممارسة السطوة..
لم تغير كل تلك السنوات شيئا في طباع ” عم حمزة”.. وإن بدا سائقي السيارات أقل إكتراثا به ويسخرون منه أحيانا .. بل ويسبونه ويرفضون دفع ” المعلوم”.. يستغيث حينها ” عم حمزة” ” بالمعلم” الذي يرسل إليه أحد “صبيانيه” الأشداء كي يلقن ” السائق” المتمرد درسا قاسيا حتى لا يتكرر الأمر ويفقدون الهيبة والسطوة والسيطرة.. وينال “، عم حمزة” من ” المعلم” نصيبا وافرا من السب والتقريع متهما إياه بأنه لم يعد يصلح لشئ وأنه صار عبئا وعالة عليه.. ويختم وصلته كل مرة قائلا : “ده حتى اللقمة والسيجارة خسارة فيك يا شيخ”.
(3)
يجلس ” عم حمزة” حينها على الطوار كسيرا يتعرق بشدة محاولا إلتقاط أنفاسه..يظل يلوك ملاعق متلاحقة من علبة ” الكشري”.. وعندما ينتهي من طعامه يتسول سيجارة من أحد المارة آخذا في نفث الدخان في الهواء.. ويبقى صامتا تماما شاردا موجها بصره نحو خيوط الدخان الملتفة المتصاعدة في الهواء.. لعله كان يتذكر أيام مجده.. عندما كان يجلس على هذا المقعد.. حينما كانت غضبته وبالا يصيب الميدان كله… زمان كان نوال رضاه مغنما يسعى إليه الجميع.. وسخطه مغرما يعلم الكافة ثمنه ويتحاشونه.. لم يبقى له سوي أن يقبل بما هو صائر.. بالمآل الذي آل إليه.. يلقى بعدها بعقب السيجارة.. وينهض من جديد متحاشيا نظرات ” معلمه” الحادة ومحاولا إثبات أنه مازال هذا الوحش الذي كان يهابه الجميع.. عائدا في كل مرة بالخيبة.. متحملا نصيبه من السب والتقريع.. جالسا على الطوار ينفث دخان سيجارته.. متذكرا أيامه السالفة الذاهبة هباء كخيوط الدخان.. باصقا وهو يقول بصوت خفيض ” إتفو على دي دنيا “.