آتون اللهب / رعب من نوعٍ آخر

 

 

 

 

قصة قصيرة للكاتب: أحمد حسين

لست أدرى كم لبثت علي ذلك الحال، ما زلت أحاول استيعاب الأمر .
أحاول جاهدة نسيان ذلك الألم الذي يخترق كل ذرّة في جسدى .
أشعر بروحى تنسحب، وجودي يتلاشي .
عاجزةٌ أنا عن فعل شيء، بينما أراه يُقطّع أجزاء جسدى .
وعيي يتسرّب مني؛ ليُفسح الطريق إلى الظلام الذي اكتنفه .
أهى النهاية حقاً؟!
أهذا هو المصير؟!

وفي اللحظات الأخيرة التي تبقت لي ذلك العالم ..
وجدتنى أذهب بعقلى وكيانى بعيداً عما يحدث لى .
وجدتنى أتذكر كل شيء عن حياتي السابقة .
كيف كانت ..
وكيف أننى أضعتها في سبيل حياة أخرى زائفة ..
حياة مؤقتة .
تلك الحياة التي تعلمنا أن نتظاهر فيها بالقوة من الخارج
علي حين داخلنا هشٌ رقيقٌ لا يحتمل .
أفكر كيف كنا جماعة ..
فأصبحنا فراداً لا نعلم شيئاً عن بعضنا ..
كم نتشابه في الكثير فيما بيننا ..
وكم نختلف في الأكثر.

الغريب أنّه برغم كل خلافاتنا واختلافنا، لم يمثل لون البشرة أبداً بيننا أي امتيازٍ أو نقص.
فكلنا نحمل ذات الأصول..
كلنا سواسية ..
حتي وإن اختلفنا .
بالطبع لسنا من علية القوم كأصحاب الأصول الملكية ..
ولكننا الأكثر صدقني ..
هذا أنا ..
وتلك قصة حياتي .

ولدت كغيري ..
لا أتميز في شيءٍ عن عشيرتي وبني جنسي .
مازلت أذكر كل شيء عن حياتي السابقة .
أذكر لعبنا أنا وإخوتي تحت ضوء الشمس، نستنشق ذلك النسيم العليل في كل صباح .
يغمرنا دفء المشاعر وأحلام الطفولة البريئة .
وقتها كانت روحي صافية بلا ذنوب .
وقتها لم أكن كما الآن .

-توقفيييييي .
كالعادة يصرخ بها أحد إخوتي كلما حاولت التخلص من تلك الأربطة اللزجة التي كانت تربطني بهم وتشدني إليهم.
لم أعره اهتماماً وأنا أكمل محاولاتي العابثة، مما جعله يصرخ بصوتٍ أشد غلظة : قلت توقفي عما تفعلين .
إن لم تكترثي لحياتك، فافعلي من أجل اخوتك علي الأقل
ماذا جرى لكِ ؟!
كيف تغيرتِ هكذا ؟!

ألتفت إليه في تحدٍ سافر هاتفة في كبرياء :
-“ليس لك شأن بي، لم أعد تلك الطفلة التي كنتم تسخرون منها دائماً وتحطون من شأنها”.

أشير إلي جسدي في خيلاء مستطردة : أنظر إليّ ..
أنظر جيداً لترى ما أعنيه ..
فلم يتبقّ إلا القليل، حتي يأتي من يقدر كل هذا الجمال

رأيت لمعة حزن في وجهه – لازلت أذكرها – وهو يقول : -“ليتك رأيتِ ما رأيتُ أنا ..
ليتكِ تعلمين مصير من سبقونا من أهلنا وإخوتنا ..

تذكرت حينما كنا نرقص تحت المطر سوياً، وكيف كنا نرتشف -في خِلسةٍ- قطراته المنعشة .
وكيف كنا نرى أنفسنا حين يشتد المطر علينا ويصنع بِرَكاً صغيرة فيما حولنا نتأملها فى فضول، قبل أن تبتلعها الأرض ..
حينها بدأت أمعن النظر إلي انعكاسي في المياه .
حينها رأيت جسدي الذي صار يانعاً ..
حينها علمت أن موعدي قد حان .

مرت الأيام سريعاً، وفرقتنا الحياة عن بعضنا، ولكننا عدنا أقرب مما كنا .
صارعنا الحياة فلم تنل منا .
ظللنا صامدين متكاتفين كما كنا دائماً .
إلي أن جاء اليوم الموعود، وحانت اللحظة الفارقة .
لحظة دخولى المحراب المقدس .
آتون اللهب المشتعل الذي نسلّم إليه أنفسنا -طائعين كنا أم مجبرين- حتى يغمرنا جمره ليطهر أرواحنا ويمنح أجسادنا الجمال والكمال .
هذا بالطبع إذا كان راضياً.
فلن يتبق منك إلا رماداً أسود متفحماً، إذا ما اشتد غضبه
وزاد لهيبه.

لحظة فارقة تنتهي فيها حياتي التي أعرفها، لتبدأ حياة أخرى لطالما اشتقت إليها وتمنيتها .
أنظر في حنان إلى إخوتي لنودع بعضنا في صمت .
لن أراهم مرة أخرى علي هذه الصورة .
أمسك يد أخي كي لا يبتعد عني، أبتسم في شجاعة مسبلة جفنيّ في هدوء .

الآن أشعر بكل شيء كما شعرت به وقتها ..
الحرارة لا تُحتمل ..
النيران في كل مكان ..
لم أعد أرى أخي بعد أن تركت يداه وأنا أحمي وجهي من اللهب الحارق .
العذابٌ لا يوصف ..
ولكنّه اختيارنا .. ومصيرنا ..
ظللت أصرخ وأصرخ حتى انقطع صوتي .
جسدي ينتفض وينتفخ حتى يكاد أن ينفجر .
انهارت قوتي ولم أعد أحتمل المزيد .
استسلمت تماماً لمصيري عسى أن يُخَفف عنّي العذاب .

انتهى كل شيء فجأة كما بدأ .
التقطت أنفاسي اللاهثة وبدأت أنظر حولي أبحث عن إخوتي وسط الزحام والرماد .
لكَم تغيروا ..
لكَم صاروا أجمل .
لست أدري لم كانوا خائفين مرعوبين من آتون اللهب إلى ذلك الحد .
لست أدري لمَ هذا الحزن على وجوههم .

نظرة واحدة مني إلى كومة الرماد الأسود بجانبي كانت كافية لأعرف الإجابة .
نظرة واحدة كانت كافية لأعرف مصير أخي .

رأيت انعكاس جسدي على سطح لامع، فهالني ما رأيت .
-يا رباه ..
ما كل هذا الجمال !!
أهذا ما يفعله بنا آتون اللهب ؟!

-إنه يستحق ..
قلتها لمن حولي في فرحٍ غامر؛ فلم يشاركني أحد فرحتي .
اتحسس جسدي بانبهار، وأنا ناظرة ممتنّة لآتون اللهب الذي أظهر كامل مفاتني الخلابة ونتوءات جسدي البضّ ..
الآن أصبحت علامات الحسن السمراء تلمع مع حرارة جسدي الذي أصبح كامل الإستدارة، يشتهيه كل جائعٍ يقدّر النعمة.
أسمع أصواتاً كثيرة لا أميز منها شيئاً..
حتى شعرت بأحدهم يجذبني بغلطةٍ ويحملني مغادراً دون أن يتفوّه بكلمة.
وبين الوعي وغيابه.. تأملت ملامحه في صمت.
لم يكن ثرياً..
بل كان فقيراً إلى أبعد حد .
ولكنني تعلّقت به دون أن أدري.
بل إنني لن أكذب حين أقول أنني قد أحببته.
أحببت نظراته المتلهّفة إلى كل ذرّةٍ في جسدي..
لم ينتظر حتى تبرد حرارتي.
أخذني إلى بيتٍ خاوٍ مظلمٍ إلّا من مصباحٍ صغيرٍ يرتعش.
والى ضوئه الخافت.. احتضنني بكل شوقٍ وهيام.
ينظر إليّ بلعابٍ يقطر رغبةً، بينما يده تتحسس جسدي الهش وعيناه تلمعان شهوةً جامحة..
شعورٌ خلاب اعترانى لم أشعر به طيلة حياتي .
ها قد حانت اللحظة التي ينتهي بها كل شيء .
هاهو ذا ينهال عليّ بشفتيه ..
يُقطّع أجزاء جسدي بعنفٍ محبب .

سعيدةٌ أنا برغم الألم الحارق الذي يعصف بكياني .
جسدي ينتفض وينتقص في هدوء، بينما يأكلنى بفمه في نهمٍ ممتع، ولعابه الغزير قد زادنى ليونةً بين شفتيه .
تتناثر ذرّاتٌ منّي على ملابسه، بينما هو منتشياً يملأ صدره برائحتي العطرة.
أبتسم في راحةٍ، مسبلة جفنيّ في هدوء ..
لست نادمةٌ على شيءٍ، طالما أحببته وأسلمت نفسي إليه.
على الأقل.. سأموت بين بيديه.
للحظات ..
صرت جزءً منه .
واتحد جسدانا لبعض الوقت .
حقاً لست نادمة.
يكفيني، أنني كنت له سبيلاً (للعَيْش) والحياة ..
تلك حكايتي ..
أنا ..
حبّة قمح (بلدي)، حالمة .

                                                                              (انتهت)

طالع أيضا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى