محمد قدرى حلاوة يكتب: ” إشارة مرور “

بيان

محاولة يائسة مكرورة لعبور الطريق الفسيح.. السيارات تنهب الطريق نهبا.. بضعة ” ميكروباصات” تنحرف زاعقة نحو اليمين كالمد الهادر.. ” واحد السابع.. واحد السابع”.. يصيح السائق.. ” التكاتك” تتلوي كالأفعي لا تعلم من أين يأتي فحيحها.. بائع يرتب حبات ” الفراولة على عربته الخشبية.. ” مفيش نقاوة عندنا ” يصرخ في وجه السيدة العجوز.. بائع ” الجرائد ” يسرع في مد ” المشمع” ليغطيها من سيل المطر الهاطل.. مجموعة من الكلاب تتجمع كقطيع بلا راعي.. ” كلب ” مشغول بالبحث في كوم ” النفايات ” عن طعام وهو يهز ذيله يائسا.. آخر يرفع وجهه نحو السماء يعوي عواء حزينا.. لعله يشكو قسوة ذلك الكائن القائم على قدمين ” مفيش غير إننا نرجع عند إشارة المدرسة يابني.. فيه واحد مات امبارح وهوه معدي”.. قالت السيدة العجوز وهي تحمل كيس ” الفراولة”..

ربما كان وجود المدرسة الدولية في الحي نعمة لم أفطن لها حينها.. السيد المسئوول عن تطوير الطرق كان منتبها للأمر.. ” عسكري” المرور يقف بلا حول ولا قوة أمام حشد السيارات المنتظرة انصراف الأبناء..” أمين الشرطة” يقف مبتسما وقد طوى دفتر المخالفات وهو يقول لقائد سيارة منتظرة :” على أقل من مهلك يا باشا”.. “توك توك” يستدير بعنف مسرعا في الإتجاه الممنوع”.. هاتوا لي الواد ابن الكلب ده”.. يصرخ “الأمين ” في “العساكر”.. يشعل “سيجارة” ويعود للجلوس هادئا محييا بيديه ” الباشا” الجالس في سيارته صامتا وقد أختفت ملامحه خلف عدسات نظارته الشمسية .

يد صغيرة تشدني.. تقبض على اسوارة ” القميص”.. “عمو.. عمو.. عايز حاجة حلوة “.. ألتفت خلفي.. رأيت وجهه الأسمر الشاحب وهو يمد يده الأخرى نحوي ” بكيس ” من المناديل ..ندبة بارزة تعلو جبينه.. ابتسامة ساحرة أبرزت سنا مفقودا وآخر مكسورا.

أتربة الطريق تلطخ ملابسه المهترئة..أصابع قدمه تبدو بارزة من الحذاء البالي.. شعر رأسه الأسود يلمع من ماء المطر.. جري نحو” الرصيف” وجلس مبتهجا وهو يلتهم قطع ” البسكويت” .. آخذا في تطويح قدميه نحو الأعلى والأسفل.. لوح بيده نحو احدي ” التلميذات”.. لم ترد التحية.. أسرعت الأم مقطبة الجبين بإغلاق باب السيارة.. أرتفع الزجاج الأسود وحجب جديلتها الذهبية..

أضاءت الإشارة ضوءها الأحمر وعلت صافرة ” عسكري ” المرور.. توقفت السيارات.. ” عديني معاك يا ابني.. كان فيها إيه بس لو كان سابني أنقى؟!”.. زفرت السيدة العجوز وهي تستند على ذراعي وتستحث خطواتها البطيئة.. نوبة ” سعال” مفاجئة و موجات” عطس ” تشير لزائر البرد الثقيل.. لاحظت آثار مسودة لأصابع صغيرة على سوار ” القميص”.. توالت الإعلانات بينما أتدثر في الفراش محتسيا كوبا من الشاي الساخن.. مساكن جديدة.. عروض المحمول.. طوفان جمعيات الخير.. عيادات التجميل.. المساحيق التي تزيل كل ” البقع”.. هل تمحي الندوب وتزول كل ” البقع” حقا؟ .. تسائلت وأنا أنظر لآثار الأصابع الصغيرة وقد ارتسمت على القميص المبتل.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى