الثمن/ رعب من نوعٍ آخَر

 

 

 

قصة قصيرة للكاتب: أحمد حسين

أنياب.. مخالب.. دماء.
نجم يسطع في السماء.
وكيانٌ بشع رهيب.. جاثياً في خضوع.

لَم يدر لِمَ انتابته تلك الرجفة الباردة، وشعر بها تزحف إلى أطرافه، حينما وقعت عيناه على البطاقة، غريبة الشكل، التي كانت تمسكها بيدها.
بطاقةٌ ذهبية، تمثّل كتاباً محترقةٌ أطرافه، يحمل نقشاً بارزاً لمخلوقٍ بشع، تقطر أنيابه بالدماء.
مد يده يتحسسها برهبةٍ مبهمة، وخوفٍ مقبض، أثقل روحه وزلزل كيانه، حتى غاب عن كل شيءٍ حوله.
– “عبد الله.”
انتفض جسده حينما سمعها تهتف باسمه، فهز رأسه بقوة ينفض عنه تلك الصور المرعبة التي احتلت كيانه فجأة، وكأنما هي ذكرياتٍ كانت مطموسة في ركنٍ قصيٍ من عقله، وخرجت من عقالها.
سألها متوتراً: ما هذا بالضبط يا (سارّة)؟!
قالت ساخرة: لم كل ذلك يا عزيزي؟!
إنها بطاقة دعوةٌ لفردين إلى حفلٍ خاص جداً، يقتصر على صفوة المجتمع الدولي فقط، أهدانيها أحد كبار رجال الأعمال، اعتاد السفر على خطوط الطيران التي أعمل بها.

عاد يتأمل البطاقة وقلبه يخفق بشدة.
أتلك هي المفاجأة التي تحدثَتْ عنها؟!
تباً لها ولشغفها بكل ما هو عجيبٌ وغريب..
أحياناً يشعر حقاً بالخوف منها ومن علاقاتها.
أحنقته ابتسامتها العابثة، التي زادته توتراً، فأشاح بوجهه بعيداً عنها، حتى يسيطر على انفعالاته.
كان يعلم جموحها وجنونها المحبب منذ لقائهما الأول بالطائرة، ولربما كان هذا سر تعلقه بها حينذاك.
لكنه لم يألف ذلك الجنون أبداً بالرغم من كل شيء.
ما زال يذكر تلك المرة التي سافرا فيها إلى جنوب أفريقيا، وأقنعته بزيارة مشعوذٍ ليقرأ طالعهما.. وكيف كاد يصاب بنوبةٍ قلبية حينما أمسك الرجل يده فجأة وهو يرتجف صارخاً، يحذره من أرواح الأجداد التي تلاحقه.

انتزعته من أفكاره، قائلة بلهجةٍ عجيبة:
-“أعدك أنها ستكون ليلةً لن تنساها أبداً يا عزيزي”.
نظر إليها بابتسامةٍ باهتة، قبل أن يتحرك بالسيارة، محاولاً إخفاء توتره دون جدوى.
………………………….
قبل منتصف الليل..
كانا يقفان أمام بوابة الهرم الأكبر الذي بدا مهيباً مبهراً، بكل تلك الأضواء ومشاعل النيران التي أحاطت به، لتزيده رهبةً وجمالاً.
تلك البطاقة، فتحت لهما الطريق ببن الحشود إلى المنصة التي أقيمت تحت سفحه مباشرةً؛ فسار بجانبها يتطلع إلى الأثر العملاق بقلبٍ يخفق انبهاراً.
لعن رجال الأمن الذين أجبروهما على ترك هواتفهم المحمولة بصندوق الأمانات حتى انتهاء الحفل الذي يُحظر فيه التصوير.
جلَّ ما أثار ذهوله الشديد، كان ذلك الشاب، أسود البشرة الذي يعتلي المنصة، يرقص ويغني وسط صراخ العشرات من حوله، يتبعونه بهيئتهم المرعبة الملطخة بالدماء، ورقصهم الشبيه بطقوس السحر.

جذبها فجأة بعيداً عن الضوضاء، يسألها متوتراً: – ما هذا يا (سارّة)؟!.. ما الذي يحدث هنا بالضبط؟!
تقافزت حوله تهتف بمرحٍ جنوني:
-“إنه حفل النجم العالمي (ترافيس سكوت) يا عزيزي، الحفل الذي أُعلِن إلغاؤه رسمياً..
أليس هذا رائعاُ؟
اتسعت عيناه بغتةً، قبل أن يزفر بشدة قائلاً: هكذا إذاً..
الآن فهمت سر تلك الملابس العجيبة، والوجوه الشاحبة الملطخة بالدماء.
لهذا يمنعون التصوير في كل حفلاته.
ولكن لمَ أُقيم الحفل تحت سفح الهرم الأكبر بالتحديد؟
هتفت بسعادةٍ غامرة مشيرةً إلى السماء:
-“أنظر.. اليوم يسطع نجم الشعرى اليمانية فوق الهرم، ويتعامد على الدهليز الداخلي -الذي يشير إليه- في حدثٍ مهيب لا يتكرر إلا كل تسعةٍ وأربعين عام.

ارتسمت الدهشة على ملامحه، وهمّ بسؤالها من أين لها بتلك المعلومات!، لكنّها وضعت أصابعها على فمه تحبس سؤاله، قبل أن تخرج من حقيبتها زيين غريبين، أعطته أحدهما، وقادته إلى حيث دورات المياه قائلة بدلال: هيا يا عزيزي.. دعنا نندمج بأجواء الحفل.

لحظاتٌ مضت، خرجت بعدها ترتدي زي ساحرات، زادها سحراً وجمالاً، بينما كان هو يرتدي زي رجلٍ عربي بالغ الدقة والإتقان، بطرازه القديم ونقوشه الذهبية المتناسقة، ولونه الأسود اللامع.
تأملته بانبهارٍ قائلة: الآن تبدو لي أصولك اليمنية العريقة بوضوح.

تلاحقت أنفاسه، حينما اقترب منهما أحد الرجال الشاحبين، مشيراً إلى (ترافيس) الذي تألقت عيناه فور رؤيتهما؛ فنزل عن المنصة، متجهاً إليهما، بينما هتف الرجل بلهجةٍ تنبض احتراماً: انتظرناك طويلاً يا مولاي.
ظل يرمقه ببلاهةٍ لثوانٍ، قبل أن يلتفت إلى زوجته ليغمز لها ساخراً، ويجيبه بصوتٍ عميق:
-“وها أنا ذا قد أتيت يا رجل.. هل أعددتم كل شيء؟”
كان يحسب أنه يجاري الرجل في لعبته المرحة، ولكن الرجل، انحنى أمامه، مشيراً إلى مدخل الهرم قائلاً بطاعةٍ تامة أشعلت فضوله: نعم سيدي..
الجميع بانتظارك.

خفق قلبه بروح المغامرة التي يعشقها، فسار مبهوراً، مسلوب الإرادة تتبعه زوجته، إلى مدخل الهرم، حتى توقف مذهولاً يحدق بذلك الجمع، على ضوء المشاعل في رهبة.
أمسك يد زوجته متراجعاً للوراء، ولكنّ (ترافيس) ظهر من خلفهما ليحول دون ذلك، بابتسامةٍ صفراء.
سرت همهمة بينهم، لم يفقه منها حرفاً، قبل أن ينشق الجمع عن شيخٍ تغزو الحكمة قسمات وجهه المتغضن.
هتف الشيخ بعبارةٍ ما، ناوله (ترافيس) على إثرها، حقيبةً تحوي رقعاً ملفوفة من الجلد، وكأساً صغيرةً من النحاس الأحمر، مليئةً بالنقوش والرسوم، التقطها الشيخ بلهفةٍ، يتأملها، قبل أن تتألق عيناه ببريقٍ مرعب، ويناوله إحدى الرقع.
شعر باشمئزازٍ عجيب حينما مرر يده على الجلد الذي بدا ملمسه مألوفاً له بشكلٍ مخيف، بينما الشيخ كان يطوف حوله، واضعاً يده على رأسه، هاتفاً بعباراتٍ غريبة.

فتح الرقعة الجلدية، يحدّق برسوماتها وطلاسمها العجيبة في رهبة، وصوت الشيخ يتردد صداه في عقله، يهز كيانه، ويسلب إرادته.
ومن حوله، دوى هتاف الجميع، يرددون عبارات الشيخ، الذي توقف أمامه، وعيناه تبرقان في ظفر، يشير إلى ما بين يديه.

بلغ به الذهول أشدّه، حينما وجد الطلاسم تتألق، وتتحرك، كأنما تعيد ترتيب حروفها وكلماتها، والرسومات العجيبة، تدور حول نفسها متداخلة، تتخذ أشكالاً عديدةً مختلفة، حتى هتف الشيخ بعبارةٍ أخيرة، توقف من بعدها كل شيء.
حينها.. تألقت عيناه ببريقٍ عجيب.
بريق المعرفة.
لم يعد يعنيه شيئاً إلّا ما يرى.
كل ذهوله وتلك الرهبة في أعماقه، لم يفلحا في تعكير ما يشعر به من نشوةٍ ولهفة.
الآن يعرف تلك الرسوم.
الآن يفهم تلك الطلاسم.
والأدهى.. أنه فهِمَ كل ما قاله الشيخ.
كانت دهشته لاتوصف.. ولكن ظمأه للمعرفة، احتل عقله وكيانه.
-“هذا سحرٌ مبين!”
قالها لاهثاً، متعجّباً مما حدث، ولكنّ تعجّبه بلغ منتهاه حينما أدرك أنه قالها بذات اللسان الذي ينطقون به.
لا يدري كيف.. ولكنه فعلها.
هتف الشيخ بظفر: الآن ينزاح الضباب عن عقلك، وينكشف لك ماضيك العريق.
الآن تعلم من نحن.

أخذ نفساً عميقاً ومسح العرق الغزير على جبينه قبل أن يهتف بصوتٍ تملؤه الرهبة:
-“أنتم الأولون..
أول من أتقن فنون السحر، والتسخير؛ فآثرتم في الأرض لسنواتٍ غير معلومة، حتى بلغتم شأواً عظيماً، ليس له مثيل.”

ابتسم الشيخ ابتسامةً مرعبة وهو يقول:
-“كان هذا فيما مضى سر علوّنا.. قبل أن ينقلب سحرنا، ويصبح سبب اللعنة التي حلّت علينا وأودت بنا إلى الهلاك.”
نظر إليه متعطشاً للمزيد، فتابع بلهجةٍ مرعبة:
-منذ استحوذت تلك الكائنات المقيتة على نسائنا، فأغوينهن لينجبن لهم شياطين في صورة بشر -عاثوا في الأرض فساداً؛ فأهلكوا الحرث والنسل- حتى حاقت بنا اللعنات وضاقت بنا أرضنا، فهجرناها في شتاتٍ إلى كل بقاع الأرض.
عشنا بينكم، نمتلك زمامكم بعلومنا وأموالنا وأعمارنا المديدة.
وعلى مدى قرونٍ طوال..
دارت المعارك سجالاً بيننا وبين تلك الكائنات الشيطانية، تناولتموها في تراثكم كحكاياتٍ خرافية وأساطيرٍ مرعبة، ذكرت جدك الأعظم الذي مكننا من دحرهم وسلخ جلودهم كافةً، حتى لم يتبق منهم إلّا ملكهم الأكبر.
ما زال حراً كدودة تنخر عظامنا، وتجعل حياتنا جحيماً.
تألقت عيناه متابعاً بشغف: حتى وجدناك.
سأله مرتجفاً : أنا ؟!..
وما شأني أنا؟!
أجابه مبتسماً بخبث: لقد عشت حياتك كلها، لا تعلم شيئاً عن جذورك، ولكننا كنا دائماً حولك، أقرب إليك مما تتخيل.
في تلك اللحظة تقدمت (سارّة) ناحية الشيخ تنحني باحترامٍ لتقبّل يده قائلة: ها قد أوفيت يا سيدي.
هتف زوجها بذهول: سارّة؟!
حدّجه الشيخ بنظرةٍ جمّدت الدماء في عروقه، وبدا صوته مهيباً، كأنما يأتي من أعماق بئرٍ سحيقة وهو يقول:
-“حين تضيق بكم السبل، ويتبدد الأمل..
يأتي رجلاً، يكون عوناً لكم، وسلاحاً لنصركم..
تملأ دماؤه كأس الحياة.. ومن دمائه تكون النجاة”.

اقترب منه الشيخ مستطرداً بلهجةٍ مرعبة:
-“تلك نبوءتنا.. وأنت آخر من يحمل تلك الدماء.
انتظرنا في صبرٍ حتى تنقضي تسعةٌ وأربعون سنةٌ شمسية أخرى، لنتخلّص من تلك اللعنة على يديك
أنت وريث العزيف يا ولدي.. وقد حان الوقت ليُردّ إليك.

بُهِت مما يسمع وارتجفت شفتاه دون أن يجيب.
ابتسم الشيخ لحاله قائلاً بظفر: لا تخشى شيئاً ..
إن هي إلّا بضع قطراتٍ، تملأ ذات الكأس التي تراها.
ثمنٌ بخسٌ، لعلمٍ غزير ستناله.

تغلّب فضوله ورغبته في المعرفة، على خوفه، فمد يداً مرتجفةً للشيخ الذي تناول خنجراً من أحد رجاله، أدمى به يده في هدوء.
وضع الكأس حيث تسيل الدماء، حتى امتلأت؛ فرفعها عالياً بعينين تشتعلان ظفراً، قبل أن يتحرك ببطء ليسكب محتوياتها بين أركان الدهليز وأحجاره العتيقة.

من جديد.. سيطر نَهَم المعرفة على كيانه؛ فرفع رأسه مطالباً بما دفع ثمنه من دمائه مقدماً.
ناوله الشيخ رقعةً أخرى، فتحها بلهفةٍ ليقرأ ما بها، ولكنه وجدها بيضاء، خاليةً تماماً.
نظر إلى الشيخ حائراً؛ فناوله ريشةً ومداداً، وأشار إلى الرقعة مبتسماً بثقة.
تردد لحظات قبل أن يضع الريشة في المداد، ويقربها من الرقعة بيدٍ مرتجفة.
حينها.. تغير كل شيء.
فكأنما تملك إرادةً حرّة، وجد يده تتحرك من تلقاء نفسها، تخط الرسومات والطلاسم، حتى لم يعد هناك فراغٌ لحرف.
نظر للشيخ يستجديه المزيد، فناوله غيرها وغيرها حتى توقفت يده، بعد أن صارت الرقع كتاباً عظيماً، جمع الشيخ صفحاته وخاطها بحبلٍ رفيع.
تأمل الكتاب مبهوراً لحظات، قبل أن يضع الريشة على جرح يده، ليخُط في مقدمة الكتاب عنواناً بحروفٍ مدادها من دمه.. “العزيف”.
التفت إلى زوجته يتأملها باحتقارٍ ومقت، قبل أن يحيط الكتاب بيديه، ويندفع إلى الخارج، ليصعد المنصة صارخاً بجنون، وهو يقلّب صفحات الكتاب: اليوم تنكسر لعنتكم، وتتحقق نبوءتكم.
توقف عند صفحةٍ بعينها، تحمل نقشاً رهيباً لمخلوقٍ بشع، طفق يقرأ ما بها مراراً، وجسده يرتجف بقوةٍ كلما علا هتافه، حتى تألقت الرسومات والطلاسم.
حينها..
علم (ترافيس) وجماعته أنهم قد ظفروا أخيراً بما جاءوا مِصر من أجله، فلم تكن الطقوس لتكتمل إلا داخل محيط الهرم الأكبر.
سرت الرهبة بأوصالهم، وتراجعوا بظهورهم راكعين، ترتعش أقدامهم، يجرونها جراً، وعيونهم متعلقة بمدخل الهرم.
ومن ببن أحجار الدهليز الأثري..
تجسّد أمامهم ذلك الكائن الرهيب.
مخلوقٌ أسود بشع، سمعوا له خواراً عجيباً، يحمل صراخ آلاف المعذبين.
تسيل الدماء من بين أنيابه الحادة، ومخالبه الطويلة تلمع على ضوء المشاعل، كسيوفٍ تشتاق لغمدها.
عيناه جمرتان مشتعلتان في جسدٍ مُشعِرٍ بأكمله، وقدماه أشبه بقوائم ثورٍ عظيم يضرب بهما الأرض فتهتز بقوة.
ومع هتافهم الذي شق سكون الصحراء مجدداً..
اقترب منه الكائن ببطءٍ رهيب.
وفي خضوعٍ تام..
جثا تحت قدميه يخور ويعوي كذئبٍ جريح، وكأنما يعلن طاعته وانصياعه لأوامر سيده.

برقت عيناه نشوةً وهو يصرخ فجأة:
-ها قد دانت لي السيطرة على تلك الكائنات التى سخّرها الأولون.
اليوم تنحنون أمامي كما ينحني ذلك ال.….
بُترت عبارته فجأة، لتنتهي بصرخةٍ رهيبة، جمّدت الدماء في عروق كل من رأى المنظر البشع، وذلك الكائن ينقض عليه بغتةً، ليغرس أنيابه في رقبته بلا رحمة، ويشرب دماءه في تلذذٍ وحشي.
حينها..
برقت العيون، وارتفعت صيحاتهم عاليةً، يلعنوه كما لعنوا أسلافه من قبل، يشاهدونه يسقط أرضاً مضرجاً بالدماء، وذلك الكائن البشع، يجثو على الأرض بجانبه، يصدر أنيناً متحشرجاً، لحمه يذوب وعظامه تتحلل بسرعةٍ رهيبة، حتى لم يتبق منه إلا كياناً رخواً.

التوى عنقه، يرمق تلك الكتلة المشعرة بنظرةٍ أخيرة، قبل أن تفارقه الروح.
تهاوى جسده على الأرض، وعبارة الشيخ ما زالت في عقله تتردد: “ومن دمائه، تكون النجاة”.

نرشح لك أيضا:

غبار الملائكة/ رعب من نوعٍ آخَر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى