محمد قدرى حلاوة يكتب: أحلام 

بيان

(1)

في ليالي الصيف، عادة لا تنقطع: نطرق باب ” العم حسن”.. نقرات منتظمة على زجاج “الشراعة”.. تطل ” الجدة روحية” من خلفها بعد بضعة نداءات ” مين اللي على الباب؟”.. ندلف نحو غرفته وسط عبارات الترحيب والدعاء المأثور.. غلالة من الصمت وعيون أنهكها الدمع تكلل الوجه السمح.. ما الخطب؟.. لم يقف ” العم” مرحبا تلك المرة.. تحلقنا حوله في صمت وعيوننا متطلعة نحو الصورة الباهتة” للشهيد العريف حسين”.

” العم حسن ” يكبرنا بنحو أثنى عشر عاما.. لا يبدو مثل شباب الحارة.. لا يقف على الناصية تتدلي السيجارة من فمه.. لم يضبط يوما مرتديا ” الشارلستون” والقمصان ذات” الياقات” المتدلية.. لا يلعب الكرة في الدورات الرمضانية أو يقف مغازلا فتيات مدرسة” السنية “.. هو فقط يجلس دوما في شرفة المنزل.. يضبط ” أريال” الراديو.. وقد تراصت حوله كمية هائلة من القصص والروايات ودواوين الشعر العتيقة ومجلات طلبات المراسلة.. يحكي ويحكي.. يكتب القصص الأشعار والخطابات .. نحن جمهوره الوحيد.. ولا بأس من أكواب ” التمر هندي” التي لا تنقطع.

” يوليو / تموز ” العام ١٩٧٤.. ربما عادت ذكرى ” العريف حسين” تحلق في هذا المنزل الصغير.. الأخوات وجدوا “ابن الحلال”.. الوالد توفى في صمت جليل هناك جالسا على ذلك الكرسي المتهالك في المدخل.. سرعان ما قال حسن بنبرة مقتضبة: “سقطت تاني في الثانوية العامة.. أنا مش زعلان غير على الحاجة.. أملها فيا كان كبير قوي.. بقيت عوضها بعد حسين وأبويا الله يرحمهم”.. أضاف مبتسما في سخرية، المذيع قال : مدرسة محمد علي.. لم ينجح أحد”.. رنين الأكواب تصطك ببعضها وصوت ” الجدة روحية” خافتا متهدجا ” أشربوا حاجة تطري على قلبكم.. كان نفسي أبل لكم شربات النجاح”.

(2)

” يناير / كانون ثان ” العام ١٩٧٥..” العم حسن ” يتخذ قرارا خطيرا.. ” أنا مسافر لبنان أشتغل.. يمكن أكمل تعليمي.. ويمكن أكمل حياتي هناك وما أرجعش”.. قالها ” حسن” بينما تسيل قطرات المطر على زجاج النافذة كخيوط دفق نبع عبرات لا تنضب أبدا.. ” خلوا بالكم من أمي.. هتتوحد من بعدي “.. نغادر المنزل مطأطأي الرأس.. بينما تجلس هناك “الحاجة روحية” على الكرسي المتهالك.. وفي عينيها بقايا حياة.

أتى الصيف بلهيبه.. نمر بين الحين والآخر على منزل ” العم حسن”.. مازالت ” الحاجة روحية” في شموخها وعزتها.. وإن كانت لا تستطيع أخفاء هزالا قد زار، وانحناءة قد تسيدت.. دعوات لا تنقطع من شفاه صغيره تتحدى تغضنات الذقن الموشومة.. والأنف المنتصب كالحرس.. ” والله لانتوا شاربين حاجة.. ربنا يحميك يا حسن.. ويحميكوا يا ولادي”.. ربما تردد دعوات وابتهالات بحكم العادة.. ولعلها قد سمعت بتلك الحرب المجنونة التي تحرق ذلك البلد الصغير المسكون بالفتنة والجمال والغضب أيضا.

نهضت من النوم لاهثا أتعرق.. رأيت ” حسن” يجري لاهثا متلفتا وراءه.. يلوح لنا بيده.. والكتب والدواوين تتساقط من حقيبة يده.. ” لعله خير.. حسن هيرجع بالسلامة.. أمه مالهاش غيره.. ربنا يرده مجبور”.. قالت جدتي مهدئة من روعي.

“فبراير / شباط” ١٩٧٦..الزغاريد تدوي من منزل ” حسن”.. ” الجدة روحية” ترش الأرز من الشرفة.. عدونا لاهثين نحو المنزل.. يجلس هناك في غرفته.. ذات الملامح والسمات.. نفس الصمت والشرود.. وإن بدت نظرات غضب وذهول وهالات سوداء تتدلي أسفل الجفون.

(3)

” دمار وجنون.. الناس كلها بتقتل بعضها.. لبنان اللي في الحواديت والسينما حاجة.. واللي شفته حاجة تانية.. بقيت أخاف أقول أسمي أو بلدي.. متعرفش مين مع مين؟.. ومين ضد مين؟.. ده غير أن فلسطين للأسف بالشكل ده مش هتحرر ولا بعد مية سنة”.
كنا نقدر تجربته الرهيبة التي عاشها.. الحرب والدم ورائحة الموت.. ” نادين ” ثمرة” الأرز ” الطارحة صديقة المراسلة التي لم يتمكن من رؤيتها أبدا.. لم يعرف رأيها في قصائده.. حكاياته.. حروفه المبثوثة عشقا وغراما.. لا بأس بضعة أيام ويروق البال.. رشفنا رشفات من زجاجة ” كوكاكولا” كبيرة.. و ” الأسطوانة” تدور بصوت ” فيروز” ” نسم علينا الهوى”.. ذلك كان كل حطام العائد وحصاده.

” نوفمبر / تشرين ثان” ١٩٧٧.. وجه ” حسن” يمتلئ سخطا وغضبا.. ” الجدة روحية” تحتضن صورة ” العريف حسين” وتنوح بلغة صعيدية لا تبين معالمها.. بينما بدا مربع مرسوم من التراب والسخام على الحائط: ” سلام؟.. سلام أيه؟.. الموضوع مش لقطة وأيد بتسلم على الثانية وحاجز نفسي زي ما بيسمموا عقولكم.. الموضوع أرض وحقوق ودم ناس راحت.. بكرة تشوفوا بعينكم.. ومسيركم تفهموا”.. اندفع “حسن” قائلا في حدة.. قدرنا حزنه ولوعة الجدة.. ربما هي ذكرى ” العريف حسين”.. لعله الشوق ” لنادين” التي لن يراها أبدا.. وخطاباته العائدة” لم يستدل على العنوان “.. حلم ضائع يسلمه لسراب أضغاث أخرى.. بينما يعلو من صوت الميكروفونات في الميدان صوت” فايدة كامل” :

” ياسادات.. يا قائدنا..
يا سادات يا زعيمنا..
يا سادات يا رئيسنا..
يا سادات يا حبيبنا “..

” ديسمبر / كانون أول ” العام ١٩٨٢.. كانت قد مضت ذكرى ثلاث سنوات على رحيل” الجدة روحية”.. يقول ” حسن إنه سمع صوت أرتطام ضعيف في” الصالة”.. خرج مسرعا.. رآها لآخر مرة ممدة على الحصر وبقايا ” الشاي ” يشق مساربه على الأرض الجرداء.. مازالت يديها تمسك ” بالصينية ” المعدنية.. تلك التي طالما تراصت عليها أكواب ” التمر هندي”.. شنطة سفر أخرى يقبض عليها ” حسن “.. إلى ” سوريا” تلك المرة.. لم يصرح لنا بالسبب.. لعله حلم جديد ونداهة أمل مراوغ أخر.. لقد تواعد مع” نادين” هناك.. هكذا أسر البعض.. ” قفل” صدئ كبير معلق على باب” الشقة “.. أصص صبار ذابل يشكو الظمأ.. هذا كل ما يصادفنا صعودا وهبوطا.. ولا نبأ يتردد عن مصير الحلم الجديد وخبر الفتى المتأبط حقيبة:

“فزعانة يا قلبي..
أكبر بي هالغربة..
ما تعرفني بلادي..
خدني خدني..
خدني على بلادي” .

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى