محمد أنور يكتب: السيرة النبوية المختصرة (محمد صلى الله عليه وسلم).. الجزء الأول (6 من 6)

بيان

كانت قريش تنظر إلى أبي طالب نظرتها إلى زعيم يحبه الجميع ويهابه ويحترمه، ليس فقط لمكانته في قريش، بل أيضًا لما كان يتمتع به من نفس كريمة وخصال عظيمة وشخصية عادلة فاضلة تبهر الناس بقوتها واستقامتها وشموخها.

كان أبو طالب عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس به؛ فهو عمه وكافله ومربيه، يعرفه إنسانًا كاملًا صادقًا أمينًا طاهرًا، يتفجر شوقًا لرؤية الحقيقة.

في أيام الدعوة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم، رأى أبو طالب ولده عليًّا رضي الله عنه يصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أتم عليٌّ رضي الله عنه صلاته، ذهب تلقاء والده وقال له بصراحة وثبات ليسا بطارئتين عليه: “يا أبتِ، لقد آمنت بالله وبرسوله وصدقت ما جاء به واتبعته”.

فأجابه أبو طالب: “أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه”.

ليس ذلك فحسب، بل إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يومًا يصلي، وقد وقف عليٌّ رضي الله عنه إلى يمينه، ولمح من بعيد ولده جعفر رضي الله عنه، فناداه، حتى إذا اقترب منه قال له: “صِلْ جناح ابن عمك وصِلْ عن يساره”.

سعة أفق وذكاء قلب يحملان صاحبهما على إفساح الطريق للحقيقة الجديدة حتى تأخذ فرصتها وتثبت صدقها. ولو كان غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بهذه الدعوة، ما تخلف أبو طالب عن نصرته.

كان أبو طالب يقف إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام الناشئ موقفًا تمليه عليه رجولته وعظمة نفسه، صمد لقريش وأحبط كل مكايدها، وقال لهم: “أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى، ويصبح من لم يجن ذنبًا كذي الذنب، ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا أواصرنا بعد المودة والقرب، فلسنا ورب البيت نسلم أحمدًا لضراء من عض الزمان ولا كرب، ولما تبن منا ومنكم سوالف وأيد أترت بالقساسية الشهب”.

وحين ذهب وفد من قريش إلى أبي طالب قائلين له: “إن لك فينا سنًّا وشرفًا ومنزلة، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا. فأما أن تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك منا أحد الفريقين”.

حين قالوا له ذلك، ورد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا لهم: “لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتى يقضيه الله، أو أهلك دونه”.

ورد أبو طالب بصلابة وإصرار، قائلًا: “ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا، والله لن يصلوا إليك بجمعهم، حتى أوسد في التراب دفينًا”.

أقبل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ حزينًا آسفًا، وتحرى الأمر، فعلم أن قريشًا أغرت به سفيهًا من سفهائها، فألقى عليه روثًا ودمًا وهو ساجد في الكعبة يناجي ربه وخالقه.

فنهض أبو طالب من فوره، حاملًا سيفه بيمينه، متأبطًا ذراع النبي صلى الله عليه وسلم بيساره، حتى إذا وقف على المتآمرين، ورآهم يتململون حين أبصروا به مقبلًا، صاح فيهم: “والذي يؤمن به محمد صلى الله عليه وسلم، لئن قام منكم أحد، لأعاجلنه بسيفي”.

وراح يمسح الروث والدم بيده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقذف به على وجوههم جميعًا، وجوه أشراف قريش الذين تحولوا أمام البطل إلى جرذان.

وقبل أن يموت أبو طالب، أوصى قائلًا: “يا معشر قريش، أوصيكم بتعظيم هذا البيت (الكعبة)، فإن فيه مرضاة الرب، وقوام العيش. صِلُوا أرحامكم، ولا تقطعوها، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل. اتركوا البغي، فقد أهلك القرون من قبلكم. يا معشر قريش، أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، فإن فيهما شرف الحياة وشرف الممات. وعليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة.”

وأوصى بمحمد خيرًا، قائلًا: “فإنه الأمين في قريش، والصادق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به.

ولقد جاءنا بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن. وإيم الله، لكأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الأطراف، والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت.

ولكأني به قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها. والله، لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يهتدي بهديه إلا سعد.

ولو كان في العمر بقية، لكففت عنه الهزاهز، ولدافعت عنه الدواهي. وأنتم يا بني هاشم، أجيبوا محمدًا وصدقوه، تفلحوا وترشدوا.”

هذا أبو طالب، شيخ قريش وسيد جيله.

ملححوظة: انتهى الجزء الأول فى هذه السلسلة، انتظرونا فى الجزء الثانى.

اقرأ فى هذه السلسلة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى