العارف/ رعب من نوعٍ آخَر

قصة قصيرة للكاتب: أحمد حسين
-“اُحضُر إلى البلدة فوراً..
عمك عثر على مقبرةٍ تحت الأرض.”
تأمل شارداً للحظات، تلك الرسالة التي وصلته من رقم مجهول، قبل أن يبتسم ويلقي الهاتف جانباً بلا اكتراث.
كان يعرف جيداً أن تلك الرسالة راح ضحيتها الكثير من ضعاف النفوس والطامعين الذين مسّهم الشيطان بوساوسه وأغرقهم في آمالٍ كاذبة، انتهت بهم إما قتلى أو منتحرين، وهو ليس منهم بالطبع.
سألته زوجته وهي تداعب صغيرهما:
– ماذا هناك يا (سالم)؟!
اتسعت ابتسامته وهو يقول: لا شيء يا عزيزتي.. إنها تلك الرسالة الشهيرة التي تدعوكِ للحضور سريعاً إلى قريتك بعد أن وجد عمك كنزاً مدفوناً هناك.
سأله الصغير، وعيناه تبرقان سعادة:
-متى نذهب لنحضر الكنز يا أبي؟
هتف (سالم) بوالده ضاحكاً: أسمعت؟!
إن (زاهر) حفيدك المدلّل الذي أسميته باسمك، يريد الذهاب لإحضار الكنز المزعوم.
كان يتوقع أي ردة فعلٍ من أبيه، ولكنه لم يلقَ إلا صمتاً جعله يلتفت إليه بتعجبٍ ما لبث أن صار ذهولاً.
كان الشيخ زائغ العينين، تتلاحق أنفاسه بشدة، وقطرات العرق البارد تملأ ناصيته.
سأله جزِعاً: ما بك يا أبي؟!.. أهو قلبك مرةً أخرى؟!
جاهد الشيخ ليلتقط أنفاسه، قبل أن يتمتم بصوتٍ مرتعش: أرني تلك الرسالة يا ولدي.. أرني إياها.
ناوله الهاتف وهو يرى الرعب في ملامحه لأول مرة.
تهاوى الشيخ أرضاً، قبل أن يسبل عينين مجهدتين وذكرياتٌ بعيدة تقتحم عقله بشراسة.
ذكرياتٌ دفنها في أعماقه منذ زمنٍ كان به شاباً قوياً، لم تنل منه السنون بعد.
………………………………..
جالساً بداره الجديدة ذات يومٍ، آتته زوجته ترتجف خوفاً، تخبره منهارةً أن ولده كان يلعب مع أبناء عمومته خلف الدار، حينما تسمّر مكانه فجأة، يصرخ متشنّجاً بكلماتٍ مبهمة، وألقى بجسده الصغير على الأرض، يضربها بيديه وقدميه.
هرع ليرى ما بولده ولكنه لم يستطع الاقتراب منه، هتف بأولاد إخوته أن يأتوه بآبائهم ومعهم فؤوسهم ومعاولهم، فجاؤوا وشرعوا يحفرون الأرض في ذات البقعة التي عليها ولده.
كف الطفل عن الصراخ فجأة، حين قابلتهم أرضٌ حجرية صلبة ما لبثت معالمها أن اتضحت بضرباتهم.
حينما جنّ الليل.. وقف الأب وحيداً يتأمل المقبرة الحجرية ونقوشها المهيبة، وعلى ضوء مصباحه، اقترب يتحسسها بيديه حينما اندفعت فجأة – من بين شقوقها – ريحٌ قوية ساخنة لفحت وجهه ودفعته بقوةٍ ليسقط على ظهره.
وحينما اعتدل.. كان يحدّق بذهول في تمثالٍ ذهبيٍّ صغير وجده أمامه مباشرةً.
لم ينتظر حتى الصباح؛ فأخفى التمثال وحمل ابنه قاصداً ذلك البيت شبه المتهدم القابع وحيداً على أطراف البلدة.
بيت (العارف)..
شيخ القرية.. أو دجالها.
يأتونه أهلها من كل صوب، ليفك أسحارهم، يشفي مريضهم ويبارك نساءهم وأولادهم.
يقولون أنه من المجاذيب، ويقولون من الأولياء.
لا أحد يعرف من هو، ولكنه موجودٌ منذ زمن لا يعلمونه، حتى أن البلدة كلها تهمس على استحياء بأنه لا يموت.
وقبل أن تدق يده الباب العتيق بيديه.. انشق عن شيخٍ مهيبٍ حاد النظرات، تلتمع عيناه ببريقٍ عجيب.
تأملهما لحظات ببرود، قبل أن يدعوهما للدخول قائلاً ببساطة: انتظرتك زمناً طويلاً يا ولدي..
لمَ تأخرت؟!.
خطا إلى الداخل يمسك يد ابنه بقوة، يتأمل البيت بدهشةٍ عارمة تشوبها الرهبة.
تماثيل مخيفة..
مومياواتٍ محنّطة..
جماجم صغيرة، وصورٌ متهالكة لأشخاصٍ حُفِر الرعب والعذاب بأبشع صورهةٍ على ملامحها.
أجلسه (العارف) أمامه وشرع يفحص جسده حتى انتهى، فأومأ للصغير أن يقترب ليفحصه.
حينها تكلّم بصوتٍ مخيفٌ لا يزال صداه يتردد في عقله:
-“أنت “زوهريٌّ” يا ولدي.. كذلك ابنك.”
قرأ الحيرة في عينيه فأردف متابعاً بشغف:
-زوهريٌّ من الـ (زوهار)، أقدم كتب سحر الكابالا، أو هي من كوكب الزُهرة الذي يتألق بشدة يوم ميلاد الطفل الزوهريّ.. لا أحد يعلم يقيناً.
ولدك يملك العلامات كاملة، بينما تملك أنت إحداها فقط، ما يجعل قدراتك محدودة ومقاومتك أقل.
زادت كلماته من حيرته وخوفه على ولده، بينما (العارف) يحدجه بنظرةٍ ثاقبة قائلاً: احذر يا ولدي
إن الزوهريّ للجن كالزئبق الأحمر للبشر، هو مصدر قوتهم، بدمائه يرتقون ويعلون منزلةً.
طاقته الروحية الهائلة، تجعله حلقة وصلٍ بين العالمين، ودماؤه النادرة لا تُقدّر بثمن.
لكن قوته مرهونةٌ بعمره.. فكلما ازداد عمراً، كلما ضعفت تلك القوى، وهلكت مقاومته لاستحواذ الجن الذي يسعى من أجل روحه دائماً.
انقلبت عيناه فجأةً وعاد يهتف بذات اللهجة المخيفة:
-“لكل كنزٍ دفين، حارسٌ أمين لا يقهره إلا زوهريّ لم يبلغ العاشرة.. فقط بدمائه، ينكشف السرداب”
قالها ونهض من مكانه معلناً انتهاء الزيارة.
غادر (زاهر) البيت يحتضن ابنه بشدّة، عقله يكاد ينفجر بين رغبةٍ محمومة، وخوفٌ من مصيرٍ مجهول.
صراعٌ بين نفسٍ تلومه وأخرى بالسوء تأمره. وحينما ذهب إلى إخوته لينبئهم بما كان.. وجد أعينهم تلتمع شهوةً وهم يخبروه على استحياء، أن إفعل ما تراه.
لم ينس كلمات أخيه وهو ينظر لطفله قائلاً:
-الولَد مولود يا ابن أبي.
غادرهم عائداً به إلى الأرض، لا يدري ما يفعل.
ترك ابنه بالأعلى ونزل يتأمل نقوش المقبرة وطلاسمها، علّه يسبر أغوارها دون ثمنٍ يمقته.
فجأة.. شعر بالأرض تهتز من تحته وانشق الجدار الحجري أمامه عن خنجرٍ ذهبيٍّ صغير، مقبضه مرصّعٌ بالجواهر، التقطه بأصابعٍ مرتجفة، يتأمله شارداً، قبل أن يعود الجدار إلى ما كان عليه.
دوارٌ عنيف.. هاجم رأسه فجأةً.
جسده يترنح، وعيه يتسرّب منه، بينما صرخة ولده تتردد في عقله تزلزل كيانه، فصرخ وصرخ حتى ابتلعه الظلام.
وحين فتح عينيه.. كان مدخل المقبرة مفتوحاً.
تلفّت حوله كالمجنون يبحث عن ولده، حتى وجد ما تبقى منه، ملأ صراخه الدنيا حتى كاد صوته ينقطع، وعاد الظلام يكتنف وعيه من جديد.
………………………………..
أفاق الشيخ من ذكرياته، واستجمع شتات نفسه قبل أن يقول بصوتٍ مُجهَد كأنما خاض لتوه معركة حياة:
-كيف وصلوا إليك؟!
حاولت بشتى الطرق، إبعادك عن تلك اللعنة من بعد موت أخيك.
لم يستوعب (سالم) كلمات والده، الذي قرأ حيرته فتابع بنفس اللهجة: غداً أجيب كل أسئلتك يا ولدي، ونحن في طريقنا إلى الأقصر.
زادت دهشة (سالم) وبداخله نما شعورٌ غريبٌ بالخوف.
كان يعلم أن جذوره من الصعيد، ولكنه لم يذهب إلى هناك من قبل.
والده نفسه لم يذكر شيئاً أبداُ عن تلك الجذور.. فقط يعلم أنهم انفصلوا عن العائلة منذ زمن، حينما انتقلوا للعيش في القاهرة بعد ومولده مباشرةً.
بات ليلته محموماً، تنهش عقله الأفكار والأسئلة، يستلهم الصبر، ويستجدي النوم بلا فائدة.
مع أول خيوط النهار..
كان جالساً بجوار أبيه في القطار. بينما كان (زاهر)، يجلس فرِحاً بينهما.
ما أن تحرك القطار، حتى تنهد الأب بحسرةٍ قبل أن يقول لولده بصوتٍ مرتجف:
-تلك الرسالة التي أتتك ليست مصادفة.. إنما هي تُبعث لكل زوهريّ.
قالها وحكى له كل شيء من البداية، حتى تلك اللحظة التي فُتِح فيها باب المقبرة، بعد أن خضّبت دماء ولده الأرض من حوله.
تألقت الدموع في عينيه قائلاً: في الصباح..
اتهمني إخوتي بأنني قتلت ولدي وأخفيت عنهم الكنز، استنكروا عليّ تلك الفعلة الشنعاء، ونفوا أي علاقةٍ بها على الرغم من الثراء الذي ظهر عليهم بعدها.
لم أقبل عزاءً لأخيك، وقطعت كل صلةٍ بإخوتي بعدها.
وحينما وُلِدت أنت، لم تحتمل والدتك مجرد تصور ما قد يحدث، لذا تركنا كل شيء وانتقلنا للقاهرة، لكن القدر لم يمهلها كي تقرّ عيناً بما وُهِبتْ، وتوفت يعد ولادتك بشهرٍ واحد.
استمع (سالم) إلى والده بذهولٍ تامٍ حتى انتهى.
لم يتصوّر أبداً أن أخاه قد قتُل، أو أن يكون هناك بشرٌ بتلك القسوة.
سأله حائراً قلقاً: ولم العودة إذاً يا أبي؟..
علام تنوي بالضبط؟!
أجابه والده بصوتٍ يرتجف: العارف يا بنيّ..
هو فقط من يستطيع تخليصنا من تلك اللعنة.
قالها بعقلٍ شاردٍ، وهو لا يعلم حقاً لم العودة..
لم الآن.
………………………………..
تباطأت خطواته المرتعشة مقترباً من البوابة، وعقله يسترجع ذات اللقاء منذ أكثر من ربع قرن.
كل شيء كما هو لم يتغير.
امتد العمران إلى كل البلدة، إلا هذه الناحية.
بدا وكأن الزمن لم يمر يوماً من هنا.
وكما حدث سالفاً.. فوجئ بالعارف أمامه قبل أن تمتد يده لتدق الباب، ينظر إليه ذات النظرة الثاقبة بعينيه اللامعتين.
-“انتظرتك زمناً طويلاً يا ولدي.. لم َ تأخرت؟!”
قالها العارف بنفس اللهجة وهو يقوده إلى داخل البيت العتيق.
نفس الصور..
التماثيل المرعبة..
والمومياوات المحنّطة.
وكأن لقاءهما كان بالأمس القريب.
كل شيء بالبيت كما تركه بالضبط.
حتى العارف نفسه، بدت ملامحه وكأن الزمن لم يخطها منذ لقائهما، بينما هرِم هو وأصبح شيخاً تجاوز السبعين
جالساُ على كرسيه، أنصت له العارف حتى قص عليه كل شيء، وبصوته الآتي من أعماق بئرٍ سحيقةٍ هتف:
-قرّ عيناً يا بنيّ، فخمسةٌ من أولاد إخوتك قد لاقوا نفس المصير.
قالها مشيراً براحة يده، علامة الرقم خمسة، قبل أن ينهض من مكانه معلناً انتهاء الزيارة.
انقبض قلب الشيخ حزناً وكمداً، وأقسم أن يذيق إخوته أقسى ألوان العذاب.
فجأة انتبهت عيناه إلى ذلك الخط العرضي في راحة يد (العارف)، حينها عرف سر ذلك البريق الذي يملأ عينيه.
خفض رأسه للأسفل حائراً مشتتاً، لكنّ بصره وقع على آخر شيءٍ كان يتوقع رؤيته.
فحول ساق العارف اليسرى.. كان رباطاً جلدياً سميكاً، يلتفّ على خِنجرٍ ذهبيٍّ صغير، مقبضه مرصعٌ بالجواهر.
حينها لم يدر ما جرى له..
قوةٌ عجيبه تملّكت جسده الواهن، جعلته يهبّ من مكانه فجأة ليلتقط الخنجر، ويقفز ليضع نصله الحاد على رقبته.
وفقد العارف هيبته وقوته مع المفاجأة.
انطلقت توسلاته للشيخ الذي أمسك برأسه يصرخ بغضبٍ هادر: أنت من قتل ولدي وأبناء إخوتي.
صاح بصوتٍ متحشرج: إخوتك لم يشغل نفوسهم الطامعة إلا الذهب، أما أنا فلا أبالي به.
دماء الزوهريّ النقي، كما هي أكسير حياةٍ للجنيّ، فهي أيضاً كذلك للزوهريّ الأقل مرتبةً.
بدا صوته كالفحيح وهو يقول: الشباب والقوة..
أنت لا تعرف لذّة ذلك الشعور من بعد وهن.
أحكم الشيخ قبضته على الخنجر ورفعه هاتفاً بغضب:
-بل عرفت.
وهوى بالخنجر على قلبه بكل قوته.
………………………………..
– الشمس كادت أن تغيب.. هيا بنا يا صغيري.
كانت سعادة (زاهر) لا توصف حين علم أنه سيذهب للّعب خارج الدار.
ارتدى أجمل ثيابه، أحضر كرته الصغيرة، وحذاءه الأبيض، وألقى بنفسه في حضن جده الذي حمله خارجاً ليرتع ويلعب.
ألقى كرته عالياً بكل قوته وركض وراءها يركلها بقدمه الصغيرة إلى جده في سعادةٍ غامرة، فانحنى الجد ليمسكها بيده.
صاح الصغير متبرّماً: ليس بيدك يا جدي.
نظر إليه الجد بابتسامةٍ باهتة وألقاها ليركلها بقدمه، حملتها الرياح بعيداً فجرى الصغير وراءها بسعادة، يبحث عنها ويناديها كما ينادي قطته: كرتي.. كرتي أين أنتِ؟!
صرخ فجأة وتشنجت أطرافه بشده، سقط أرضاً يتلوى ويصرخ بكلماتٍ مبهمة، مشيراً إلى بقعة محددة.
أتاه جده لاهثاً مهرولاً يحمل فأساً، انحنى يضرب به الأرض بسرعة، حتى هدأت حركة الطفل تماماً.
وقف بجانبه يرمقه بحزنٍ وألم..
هو وحده يعلم أنه زوهريٌّ نقيّ منذ مولده، لذا لم يخبر (سالم) شيئاً عن طبيعة تلك العلامات حين قص عليه ما حدث.
لم يخبره عمّا يعنيه ذلك الخط العرضي بالكف حين يكتمل، ولا ذاك الشق الطولي باللسان، أو حتى سر بريق عينيه المتّقد.
أغمض الصغير عينيه آمناً مطمئناً بجوار جده الذي أسجاه على الأرض برفق، قبل أن يسمعه يهتف فجأةً بلهجةٍ عجيبة:
-قرباناً به تعلو وترتقي، ولتمنحني بفدائه الشباب والقوة من بعد وهن.
وهوى النصل الذهبيّ على القلب الصغير..
وارتوى بدمائه شيطانا الإنس والجان.