محمد قدرى حلاوة يكتب: الحكاء 

بيان

لم يعد في الجعبة سوي بضعة أطياف تلوح من الماضي البعيد… تطل علينا في غلالة نورانية هائمة غامضة مطوقة بأكاليل البهجة والفرح.. مضت إشراقة فجر العمر إلى غسقه وشفقه.. وفي حلكة الظلام نحن إلى التعلق بخيوط الفجر الأولى.. التشبث بها وبنسمات هواءها الباردة الباعثة للحياة و السارية في الروح.. هل ثمة عودة إلى البداية.. إلي فجر سرمدي؟.. أما من سبيل للفرار من عتمة ليل مدلهم؟ ..

” العم حارس” الحكاء..كان يجلس على مقعد قديم متهالك أمام منزله كل يوم.. يحمل ” كيسا” بلاستيكيا في يده ويبدأ في إلقاء فتات الطعام للقطط المتجمعة حوله.. تطل عليه حفيدته ” هالة” من بين فتحات نافذة ” البدروم” المسيجة بأعمدة حديدية لتناوله كوبا من ” الشاى” وبعضا من ” الشطائر ” ليأخذ بعدها في تناول إفطاره.. لا شئ محدد يميز ملابس ” عم حارس ” سوي إصراره الأبدي على إرتداء ” الطربوش”.. يخلعه كل فترة ماسحا إياه بباطن ” كم” ثوبه.. ثم يرفعه في الضوء متأملا إياه ويعود لإرتداءه مرة أخرى.. يخرج بعدها لفافة من التبغ من علبة حديدية سوداء ويشعلها شاردا في لحظات صمت عميق..

شيخا سبعيني يضع بجانبه عصا خشبية ذات مقبض أبيض عاجي يتوكأ عليها في خطوات وئيدة منحنية.. ملأت خيوط التجاعيد صفحة وجهه كأن طفلا قد عبث به وأخذ يلهو بريشة على ورقة بيضاء ورسم ” شخبطات” عابثة.. كنا حينها نمارس ألعابنا الصغيرة ( الأستغماية.. مصر وسوريا.. أولى.. نط الحبل..وغيرها كنا نبتدع البهجة ونقنصها من أيدي اللحظات قنصا ). وبعد أن يأخذ منا التعب منتهاه.. نلتف حوله جالسين على الطوار مرهفين الآذان لسماع الحكايات سكري محلقين في عالم من الخيال وكون بدا لنا حينها أنه بلا مدى ولا نهاية.. ( لم تكن حكايات “عم حارس وحدها هي سبب ذهابنا إليه وإلتفافنا حوله.. كانت” هالة ” سببا ملحا آخر.. كنا ننتظر إطلالتها وجلوسها معنا أحيانا.. بدت لنا حينها كأنها قد فرت من دفة كتاب يحكي عن” الجنيات ” الجميلات لتطل علينا بما إكتسبت من نصيب نوراني من إسمها وهي تعقص شعرها الذهبي كأنها تجمع خيوط الشمس على جبين الصباح.. وخبرنا حينها معني خفقان القلب ولهاث نبضاته.. معني الغيرة ونحن نخفي عن بعضنا البعض كأصدقاء قصة هيامنا وعشقنا)..

لم يكن ” عم حارس” يحكي لنا حكايات ” الغول” و ” الساحرة الشريرة” وغيرها.. لا يثير بنفوسنا مشاعر التوجس والخوف ( قبل أن نكبر ونعلم أن عالم الكبار مسكون بخوف ورعب أشد وأقسي).. كان يحكي لنا حكايات الإنسان والتاريخ.. بدا أنه يروي قصص تاريخه الشخصي في المقام الأول.. يخط مذكراته في عقولنا.. أيام الملك.. والثورة.. و ” العلقة ” اللي أخدها” الإنجليز ” و ” الفرنساوية” فى “بور سعيد” فى ستة وخمسين.. حماسه وهو يتكلم عن ” النكبة” والخيانة في ثمانية وأربعين.. إنكساره وهو يتحدث عن ” النكسة” فى سبعة وستين.. الفخر وهو يتحدث عن النصر في ثلاثة وسبعين.. كان يلح علينا دوما وينقش في عقولنا بأن ” إسرائيل ” هي العدو.. لم تعد” إسرائيل” من حينها مجرد الصور الكاريكاتورية للعدو بأنفه المعقوف وملامحه الشريرة والتي كانت تطالعنا بها مجلة ” سمير” كل أحد.. كان يخلق فينا وينمي وعيا لا نقرأه في كتب التاريخ المدرسي.. ولا مانع بالطبع من بعض الحكايات اللطيفة عن حفلة” أم كلثوم” التي دعاه إليها أحد أصدقاءه من الكبراء عام ١٩٦٠.. واليوم الماطر العاصف في الفاتح من ديسمبر والذي طغا فيه دفء صوتها وهي تشدو” هو صحيح الهوا غلاب”..

روي لنا عن مسرح ” الريحاني” و ” يوسف وهبي” وأفلام ” ليلى مراد”.. تغزل بمهارة ” الضظوي” و ” أبو حباجة ” و” عبد الكريم صقر”.. كان يستدعي ” هالة” لتحضر له كومة من الجرائد المصفرة الأوراق ويرينا صورهم ويحكي لنا قصتهم.. يخنم حديثه دائما قائلا لنا” هيه أيامكم دي أيام.. الله يعينكم على زمنكم” ويغادرنا متكئا على عصاه ليلج إلى منزله من جديد ويظل المقعد المتهالك خاويا في إنتظار إشراقة يوم جديد..

أتسائل الآن.. لماذا يعتبر كل شخص أن أيامه و مسيرة تاريخ جيله دائما هو الأفضل والأنقي ويتحسر دوما عليها لأنها لن تعود؟.. هل لأننا أوشكنا أن نغادر وتطوي صفحتنا طيا؟.. هل هي أنانية.. رفض يائس للفناء. أم مجرد إستدعاء لأيام لن تعود؟.

يسخر الأحدث من الأقدم دوما متندرين على عادتهم البالية وتقاليدهم العتيقة.. وأشيائهم الرثة التي يصرون على الإحتفاظ بها.. إنها أعمارنا الذاهبة إلى الفناء.. وما بين نقطتي البداية و النهاية تاريخا شخصيا مفعما بالبهجة والأحزان والإبتسامات والدموع.. الإنتصارات والهزائم.. الأمل واليأس.. العثرات والنهوض.. بين النقطتين سباقا لاهثا وتاريخا لا يعني به أحد ولا يهمه أو يبالي به.. ففي كل الأحوال هو راحلا إلى مصيره الحتمي…العدم والفناء.. ويبقى الحكي.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى