الصديقتان تركيا وروسيا.. عدوتان في سوريا

كتب: أشرف التهامي

منذ اندلاع الحرب السورية ضد الإرهاب، تباينت مصالح تركيا وروسيا داخل البلاد، حيث دعمت أنقرة الفصائل المسلحة التي سعت للإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، بينما كانت موسكو من أبرز حلفائه. وازدادت حدة التوتر بين الطرفين مع تصاعد التدخل الروسي لدعم الأسد في سبتمبر 2015.

في النهاية، توصل الجانبان إلى تفاهمات، وأقاما آليات دبلوماسية لإدارة خلافاتهما والحد من التصعيد العسكري. لكن هذا التوازن بدأ في التلاشي أواخر العام الماضي، بعد هجوم للمتمردين، الذي حصل على موافقة ضمنية من أنقرة وخُطط له في 8 ديسمبر، مما أدى إلى الإطاحة بالأسد.

وبعد سنوات من دعم الجماعات المعارضة للأسد، أصبحت تركيا اليوم “الرابح الأكبر” في سوريا، في حين شهد النفوذ الروسي تراجعًا كبيرًا، خاصة مع تولي أحمد الشرع، الرئيس المؤقت لهيئة تحرير الشام، زمام السلطة.

“الرابح الأكبر” من الحرب السورية

وبالنتيجة، بقيت سوريا مصدراً للتوتر في العلاقات بين تركيا وروسيا، إذ نظراً للدور الذي لعبته أنقرة في طرد الأسد، عزز سقوط النظام السوري البائد نظرة موسكو تجاه تركيا بوصفها عنصراً فاعلاً يمارس الانتهازية ويمكنه بل إنه مستعد لتقويض المصالح الروسية إلى أبعد حد. ولكن يرجح لأنقرة وموسكو أن تستمرا في التعاون في الملف السوري مع تجنب حدوث أي أعمال عدائية بينهما، سواء تعاونتا كدولتين “متناحرتين متعاونتين” أو كدولتين “متعاونتين متناحرتين”.

الصداقة والعداوة التركية – الروسية في سوريا

تتمتع هاتان الدولتان، وقبلهما الإمبراطوريتان اللتان سبقتهما، بخبرة طويلة تمتد لقرون في مجال المواجهة والتعاون فيما بينهما، فلقد خاضت الإمبراطورية العثمانية عشرات الحروب ضد الإمبراطورية الروسية بين القرنين السادس عشر والعشرين، وطوال فترة الحرب الباردة، تحالفت تركيا، التي كانت إحدى الدول المؤسسة لحلف شمال الأطلسي والذي تعادي قيادته الشيوعية والشيوعيين، مع الغرب ضد الاتحاد السوفييتي. ولكن، ومن خلال تاريخهما المشترك، أدركت كلتا الدولتين أهمية التعايش كدولتين جارتين ضمن حوض البحر الأسود، مع سعيهما لإقامة علاقات اقتصادية فيما بينهما كلما سنحت لهما الفرصة.
وهذا التاريخ هو الذي هيأ تركيا وروسيا بشكل جيد لإدارة التوتر الذي نشأ بينهما خلال فترة النزاع السوري، فقد وصل التوتر إلى ذروته بينهما في أكتوبر من عام 2015، وذلك عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية بعد دخولها لفترة قصيرة المجال الجوي التركي على الحدود مع سوريا، لكنهما أعادتا ضبط العلاقات بينهما بعد أن هبت حكومة الرئيس فلاديمير بوتين للدفاع عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب الانقلاب الفاشل الذي استهدفه في يزليو عام 2016. وبالمقابل، فإن تلك الحادثة جعلت التوتر يصل إلى ذروته بين أنقرة وحلفائها التقليديين في حلف شمال الأطلسي.
وخلال عامي 2016-2017، تقبلت تركيا التدخل العسكري الروسي الكبير في سوريا والذي أسهم في استعادة نظام الأسد للسيطرة على معظم أرجاء البلد، وبسبب كل النيّات والأغراض التي ظهرت وقتذاك، يئست أنقرة من تغيير النظام في سوريا، فصارت تهتم بقدرتها على تأمين الحدود السورية التركية ومحاربة وحدات حماية الشعب التي تعتبرها أنقرة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، ذلك الحزب الذي أعلن التمرد والعصيان على تركيا بل وحاربها على مدى عقود طويلة.
ومنذ تلك الفترة، حرصت تركيا وروسيا وإيران التي كانت هي الأخرى إحدى الدول الداعمة للأسد على إدارة الأزمة السورية عبر عملية أستانا التي تعاونت تلك الدول من خلالها على تقديم مصالحها المشتركة في سوريا، وعلى رأسها الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وهزيمة الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة، والبحث عن حل سياسي للنزاع إلى أن يسقط الأسد على أقل تقدير. وفي عام 2019، نسقت تركيا وروسيا سياسات بلديهما على الحدود السورية-التركية، إذ اعترفت موسكو بشرعية المخاوف التي تهدد أمن أنقرة بوجود جماعات مسلحة في سوريا واحتمال تمدد النزاع السوري ووصوله إلى الأراضي التركية.
وعملياً، قلصت عملية أستانا من مستوى العنف في سوريا عبر تجميد خطوط الحرب من خلال عقد اتفاقيات جرى التوسط من أجل إبرامها وذلك ابتداء من عام 2017، وكانت أهم الاتفاقيات تلك الصفقات التي وفرت ممراً آمناً للثوار المسلحين بعد تسليمهم لأراضيهم في الجنوب مقابل السماح لهم بالاستقرار في إدلب الواقعة شمال غربي سوريا على الحدود التركية، بما أن نظام الأسد فقد السيطرة عليها في عام 2015. ونتيجة لذلك، تحولت إدلب إلى معقل للمعارضة السورية كما أصبحت ملاذاً آمناً لملايين النازحين السوريين، وبذلك أسست هيئة تحرير الشام لنفسها كياناً حكم هذا الجيب المغلق.
وفي عام 2020، بدأ الجيش العربي السوري وبدعم روسي وإيراني كامل بشن حملته من أجل استعادة إدلب، لكن تركيا تدخلت عسكرياً وأحبطت مساعي الأسد ومنعته من تحقيق ذلك الهدف، وكان الدافع الرئيسي لأنقرة للقيام بذلك هو منع ظهور موجة لجوء جديدة يمكن أن تخرج من إدلب متجهة نحو الجنوب التركي.
وبدعم أنقرة لهيئة تحرير الشام بشكل مباشر، أضحت تركيا بالنسبة لحماية إدلب صاحبة الفضل الكبير في دعم تلك الجماعة بصورة مباشرة والضامن لأمن المنطقة بحكم الأمر الواقع.
وبحلول أكتوبر من عام 2024، كانت الموافقة الضمنية التركية هي السبب الوحيد الذي مكّن هيئة تحرير الشام من شن هجومها المباغت الذي سيطرت من خلاله على حلب في بداية الأمر، ومن ثم سيطرت على دمشق، فأنهت بذلك حكم آل الأسد الذي امتد لـ54 عاماً، كما أنهت 61 عاماً من الهيمنة السياسية لحكم البعث على سوريا دون أي مواجهة عسكرية وبلعبة استخباراتية إقليمية اتفق فيها أطراف النفوذ والنزاع في سوريا على سقوط بشار الأسد.

تعاون براجماتي

إثر تعرضها لواقع جديد كلياً في سوريا، أخذت روسيا تتصرف بطريقة براغماتية، إذ صار المسؤولون في موسكو ونظراؤهم في دمشق يتعاونون مع بعضهم بعضا، ويعربون عن وجود مصلحة مشتركة في الحفاظ على علاقات البلدين على الرغم من الإرث الثقيل الذي تحمله روسيا من جراء دعمها للأسد في السابق.
واليوم، تتفاوض روسيا مع الحكومة السورية المؤقتة على البنود المتعلقة باستمرار الوجود العسكري الروسي في قاعدة طرطوس التي استأجرتها روسيا لعقود طويلة قبل قيام الحرب في سوريا، وكذلك الأمر بالنسبة لقاعدة حميميم حيث أسست روسيا لنفسها قاعدة عسكرية جوية مع بداية تدخلها في الحرب السورية عام 2015. وتحدثت موسكو أيضاً عن احتمال قيامها بدور في مساعدة سوريا بملف إعادة الإعمار وتنشيط التنمية بعد الحرب.
وبما أن روسيا عضو دائم في مجلس الأمن، فإن لدى موسكو أوراقاً للضغط بوسعها أن تشهرها لتحفيز الحكومة السورية الجديدة على التعاون معها بالطرق التي تمكن الروس من الاحتفاظ بقدر بسيط من النفوذ في سوريا، حتى بعد خروج الأسد من المشهد.
وبما أن الولايات المتحدة ما تزال محتفظة بالعقوبات التي فرضتها على سوريا خلال فترة الحرب، لذا فإن لدى دمشق ما يدفعها لإبقاء الباب مفتوحاً أمام فكرة إقامة علاقات طيبة مع روسيا.

تركيا “صانعة الملوك الجديدة”

وبما أن تركيا أضحت اليوم “صانعة الملوك الجديدة” بالنسبة لسوريا، أدرك الروس أن فكرة الابتعاد عن التعاون مع أنقرة أو الاستخفاف بمصالحها في سوريا لم تعد خياراً مطروحاً، إذ حتى يحقق الروس تقدماً كبيراً في سوريا، لا بد لهم من التنسيق مع تركيا بطريقة أو بأخرى، ولذلك ترغب القيادة الروسية في احتواء أي توتر تجاه أنقرة، بعد أن استوعبت أهمية النفوذ التركي، ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في البحر الأسود وأوكرانيا.
أما من وجهة نظر تركية، فإن التنسيق مع روسيا على الجبهة السورية أصبح ضرورياً، لا سيما في ظل عدم القدرة على التنبؤ بما يمكن للرئيس الأميركي أن يفعله والغموض المحيط بنهج إدارته تجاه سوريا.
إذ في حال سعى ترمب لفرض سياسات في الملف السوري تقوض المصالح التركية، فعندئذ يمكن لأردوغان أن يلتفت إلى بوتين حتى يقف في وجه واشنطن.
ثم إن أنقرة تدرك بأن إسرائيل تمارس الضغط على الولايات المتحدة في الوقت الحالي، وذلك لتؤيد استمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا، بحيث يصبح ذلك وسيلة للوقوف ضد النفوذ التركي، بعد أن احتدم التوتر بين تركيا وإسرائيل تجاه سوريا.
وفي ظل هذه الظروف، ترى القيادة التركية أن قيام حوار مثمر مع الروس لا بد أن يرجح كفة المصالح التركية على المدى البعيد.

في نهاية الأمر

يمكن القول إن كلاً من تركيا وروسيا تنظران إلى بعضهما بعضا بعين الريبة، لأن الأتراك لا يخشون من المطامح الروسية في الشرق الأوسط فحسب، بل أيضاً من مطامحها في أوروبا الشرقية.
ومن المحتمل للتطورات التي حدثت خلال الشهور الأخيرة في سوريا أن تزيد من التوتر في العلاقة بين أنقرة وموسكو، غير أن تاريخ كل من أردوغان وبوتين يحفل بنجاحات باهرة في تقسيم القضايا والمشكلات، وفي إيجاد سبل للتعاون فيما يتعلق بملفات معينة على الرغم من وجود مصادر كبيرة للتوتر في نواح أخرى من العلاقة التي تربط بين بلديهما.
بيد أن روسيا الحريصة دوماً على دق إسفين بين تركيا وبقية الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، ومع اعترافها بالنفوذ المتزايد لأنقرة في “سوريا الجديدة، أصبحت ترى في تركيا اليوم عنصراً فاعلاً يجب عليها أن تتعاون معه في الوقت الذي تفتش موسكو ضمن الخيارات المتاحة أمامها بعد تحول المشهد وانقلابه رأساً على عقب في سوريا إثر سقوط الأسد.
وفي الوقت ذاته، يرى المسؤولون في أنقرة روسيا كقوة عالمية تمتلك سلاحاً نووياً وتتمتع بالسبل التي تمكنها من ضرب تركيا في العمق أو فتح مزيد من الفرص والخيارات أمام أنقرة لتناور في عالم متعدد الأقطاب، وهذا ما يمد تركيا بأسباب كثيرة لتحافظ على علاقات صحية مع موسكو.
ولكن، وعلى الرغم من الخلافات القائمة بينهما، ما تزال كل من تركيا وروسيا تشتركان بمصالح في سوريا، أهمها :
1. منع تنظيم الدولة من إقامة موطئ قدم له في ذلك البلد من جديد، .
2. التصدي لأجندة واشنطن بما يخدم أهداف البلدين.
ولهذا، ومن أجل تلك الأسباب، يرجح لهذين البلدين أن يواصلا تعاونهما في الملف السوري وغيره من الملفات، وهذا ما سيجعل العلاقات بين البلدين قائمة على الاحترام والتناحر أيضاً.

………………………………………………………………………………
الرابط الأصلى للموضوع:

Turkey and Russia Will Remain ‘Frenemies’ in Syria

طالع المزيد:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى