المحاكمة / سردية

 

 

 

قصة قصيرة للكاتب: أحمد حسين

– “القضية رقم … لسنة 2025 .. جُنَح..
محكمة”.
دوى هتاف الحاجب في قاعة المحاكمة، يعلن أسماء المدعي والمدعى عليه ليقفا أمام هيئة المحكمة الموقرة

جلست مكانها بفخرٍ، بعد أن اطمأنت على الأولاد، وأوصت الابن الأكبر ألا يترك أخيه الصغير يضع طرف (بنسة) الشعر خاصتها في قابس الكهرباء – وهي هوايته المفضلة بالمناسبة – وألا يدع أخته تفتح باب الغسالة الكهربائية إلا بعد أن تسمع صوت (التكّة) التي تنبئ بانتهاء برنامجها.

عدّلت من مظهرها وهي تسترق النظر إلى تلك المرآة الصغيرة التي لا تذهب إلى أي مكانٍ بدونها.
تباً.. لم يصرون على إزالة طلاء الشفاة في قاعات المحاكمة، إن شفتيها جافتان للغاية.
هو أول يومٍ في منصبها الجديد ويجب أن تظهر فاتنة كعادتها.
اللعنة ..
ما هذه الهالات السوداء؟! ..
لسوف تضع المزيد من الـ (الفاونديشن) في موعد الاستراحة بالتأكيد.

تلفتت إلى نائبتيها عضوتيّ اليمين واليسار تتأملهما في برود أنثوي وعقلها يعمل كالصاروخ .
-همممم ..
إن (ساندي) تبدو فاتنة بحق في رداء القاضي .
-تباً لها..
هي لا تشيخ أبداً .
تنظر إلى (چيرمين) وهي تهتف في نفسها بغضبٍ مكتوم :
– “تلك اللعينة لا تكف عن النظر إلى مقعدي ..
طوال حياتها تحقد علي، دائماً تريد ما أملك لنفسها ..
لن أنسى أبداً أنها سرقت مني حبيبي ذات يوم.
كلا ..
لن تأخذي مكاني أبداً مادمت حية أيتها الحقودة”.

تنحنحت بقوة، فسكت الجميع ينتظرون أن تبدأ الجلسة.
تأملت الأوراق أمامها في شرود، وعقلها يتأرجح بين الـ (بنسة) والغسالة وقابس الكهرباء.
لكزتها (ساندي) في خفةٍ، أفاقتها من شرودها فعادت تتأمل ماحولها.
كانت المدعية بالطبع امرأة ضحية كعادة تلك الأمور.
والمدعى عليه رجل، ذكر، ذئبٌ متوحشٌ سفاح، كما هو الحال دائماً .
-“الادعاء”..
قالتها وهي تشير إلى محامي المدعية الذي يصاحبها أن يبدأ مرافعته .
والحق يقال أن الرجل كان متحمساً بالفعل لقتل الزوج أو سجنه مدى الحياة على الأقل، فراح يسرد أركان قضيته بصوتٍ جهوري، ويعرض على هيئة المحكمة حافظة المستندات التي يحملها معه، والتي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الزوج مذنبٌ بالفعل
مذنبٌ جداً ..
مذنبٌ حتى النخاع ..
اقترب من المنصة ينظر إليهن مباشرةً وهو يهتف بصوتٍ قوي : حضرات السادة القضاة ..
تلك الجريمة، التي نحن بصددها اليوم، قد أصبحت مألوفةً حد الاعتياد في مجتمعنا، وإن لم يكن لها من رادعٍ قوي.. فلسوف تنتشر كالنار في الهشيم، ولن يستقم المجتمع أبداً حينئذٍ.
إن ذلك الزوج..
لهو شيطانٌ في صورة بشر، فلا تغرّنكن ملامح وجهه التي توحي بالطيبة والوداعة.
لقد خطط لجريمته بثباتٍ وصبر بدافع الانتقام، بعد أن رفضت المجني عليها زيارة أمه حينما طالبها بذلك.
أعماه الحقد والغل؛ فانتظر حتى خلى له المنزل، لينفذ انتقامه.
ارتفع صوته أكثر وهو يستطرد بأسلوب مسرحي قائلاً :
-“ذلك الوحش، أيها السادة ..
قد كسر عامداً متعمداً -مع سبق الإصرار والترصد- فنجالين وطاقم أواني (بايركس) بدمٍ بارد-بعد أن أخرجهم من (النيش)- مستغلاً غياب موكلتي عن منزل الزوجية، في زيارةٍ لأمها، كعادتها كل يوم.
“النيش” أيها السادة القضاة ..
قدس أقداس الحياة الزوجية، قد أصبح مشاعاً، هيناً على هذا الزوج الآثم.
لذا، وبما تم تقديمه لسيادتكنّ من أدلة وبراهين..
أطلب من هيئة المحكمة الموقرة، ألا تأخذها شفقةً أو رحمةً به، كي يكون عبرةً لكل من تسوّل له نفسه أن يعبث بمقدسات الحياة الزوجية، ومقدرات الزوجة المصرية.

نظرت إليه في إعجاب ..
كم يبدو وسيماً بهذه الذقن القصيرة، لابد أنه قام بتحديدها بالليزر .
-احم احم ..
تمالكت نفسها في سرعةٍ وهى تشير بعصبية إلى الدفاع أن يتقدم ليدلي مالديه .

تقدمت فتاة ضئيلة الجسد من المنصّة في عُجالة، كادت تفقدها اتزانها، ولكنها استندت إلى محامي المدعية في آخر لحظة، فأمسك بها وهو ينظر إلى عينيها قائلاً :
-“أنتِ بخير؟”
نظرت إليه في امتنان واحمرت وجنتاها خجلاً وهي تقول: “(ميرسي) ..
ليت كل الخصوم مثلك” .
ذابت في نظراته الحانية، وتمنت أن تنتهي الجلسة سريعاً، كي تعرض عليه كل القضايا التي تتولاها لتأخذ رأيه ونصيحته.

لا تدري، أهي الغيرة، تلك التي شعرت بها رئيسة المحكمة أم ماذا !!، ولكنها وجدت نفسها تهتف بغلظة لم تعتدها :
-“لا تضيعي وقت المحكمة..
إبدأي فوراً”

أشارت المحامية إلى الزوج، وهي تقول في حنان :
-“أرجو من هيئة المحكمة أن تنظر إلى موكلي بعين العطف والرأفة والرحمة والإنسانية والشفقة والحب.
هل هذا الوجه الملائكي قادرٌ حقاً على ارتكاب تلك الجريمة البشعة ؟
هل يستطيع ذلك الطفل الكبير أن يؤذي نملة؟
إنّ كل ما حدث أيها السادة ..
هو أن موكلي كان يريد مفاجأة زوجته بعشاءٍ رومانسي، ليعبر لها عن حبه في عيد زواجهما .
ولكنه ذلك القط الذي أصرت الزوجة على اقتنائه في بداية زواجهما.
هو الذي انقض فجأة على موكلي من الخلف، فانتفض فزعاً، لتحدث الواقعة كما ذكِر في التحقيقات من قبل
وكما قدمنا لعدالتكم في صحيفة الدفاع.
وعليه.. سيادة القاضي..
فقد انتفت تماماً عن القضية، صفة سبق الإصرار والترصد، علاوة على غياب الدافع الرئيسي الذي بنى عليه زميلي قضيته.
قالت جملتها الأخيرة وهي تمنح خصمها الوسيم ابتسامة عذبة، قبل أن تستطرد : سيادة القاضي ..
حضرات المستشارين..
إن هذا الرجل بريء
بريء ..
أقسم لكم أنه بريء ..

نظر ثلاثتهنّ إلى الزوج لأول مرة منذ بداية الجلسة؛ فرفعت احداهن حاجبيها في حنان، وابتسمت الأخرى في خجل، في حين تنهدت رئيسة المحكمة بعمقٍ وهي تضم شفتيها قائلةً بخفوت : هممممم ..
(سو كيوووت) ..
كنّ قد اتخذن قرارهنّ بالفعل، من قبل حتى أن تستدعيه هي للتقدم إلى المنصة القضائية.

وقف الزوج في مكانه يتأمل ملامحهن بإعجاب، قبل أن يتقدم بهدوءٍ قائلاً :
-“أرجو أن يتسع لي صدر هيئة المحكمة”.
شهقت إحداهنّ فزجرتها الأخرى بسرعة، في حين رمقتها هي بنظرةٍ غاضبة، وأشارت له أن يتكلم.

نظر إليها بثباتٍ لحظات أخجلتها، قبل أن يقول :
-“سيادة القاضي.. حضرات المستشارين..
يعجز اللسان عن النطقِ فى حضرة الجمال المقدس.
إن تحكموا عليّ، فأنا راضٍ بما حكمتنّ، وإن أطلقتنّ سراحي، صرت لكنّ ناصحاً أميناً ..
أنا أعمل بمجال الاستشارات النفسية و(اللايف كوتشينج)

ترقرقت عيونهنّ بالدمع وأمسكت إحداهنّ يد الأخرى تربت عليها، بينما قالت رئيسة المحكمة بتأثرٍ واضح :
-“أنا أشعر ببراءتك بالفعل ..
أنت بريء”.

هتف بسعادةٍ غامرة :
-“أشكرك ..
أشكرك من كل قلبي يا مدام”.

ارتفعت الشهقات من كل صوبٍ، في حين هبّت هي من مكانها تهتف بغضب الدنيا : مداااااام ؟..
كيف تسمح لنفسك أيها الوغد، إنك بالفعل ذئبٌ متحرّش

هتف مدافعاً عن نفسه : متحرّش ؟؟
إنها قضية تبديد يا سيدتي، ليست تحرش، وأنا معترفٌ بها
أرجوكِ، لا تضعيني مع المتحرشين؟
لن يرحمونني .

ابتسمت في تشفٍّ قائلة : هو جزاؤك الدي تستحق
حتى تعرف كيف تعامل آنسة .. إحم أعني قاضٍ مثلي ..
في ذلك الوقت .. كان هاتفها يرن بلا انقطاع، فنهضت من مكانها قائلة :
“الحكم بعد المكالمة..
أحم .. أعني المداولة بالطبع”
اتجهت سريعاً إلى غرفة المداولات ورفعت هاتفها تستمع إلى محدثها الذي كان يصرخ غاضباً : إسمعيني جيداُ ..
لقد سئمت تلك الزيجة.
فلتتركى كل ما بيدك ولتأتي حالاً إلى البيت
وإلا سيكون لي شأن آخر مع والدك.. هل فهمتِ؟.

هتفت برجاء، تتوسله أن يتركها لساعةٍ أخرى، فالقضايا لم تنتهِ بعد، ولكنه أغلق المحادثة دون كلمةٍ أخرى.

ظلت تنظر إلى الهاتف وعقلها يسبح في ذكرياتٍ بعيدة.
طوال حياتها لم تأخذ قراراً بنفسها..
حتى حينما تفوقت على أخيها بالثانوية العامة، رفض أباها أن تدخل الكلية التي تريدها وأصر أن تدخل كلية الحقوق لتصير محاميةً مثله.
ليس ذلك فقط، بل أصر على زواجها من ذلك الفتى المدلل ابن صديقه وشريك مكتبه.
حينذاك، أقسمت أن تكون أول دفعتها، لتصير قاضٍ وليس مجرد محامٍ.

واليوم..
اليوم سرق منها فرحتها بتحقيق حلمها الذي عانت الكثير حتى يتحقق.
“لقد سئمت تلك الزيجة” ..
أفاقت من شرودها على دمعةٍ حزينة انسابت على وجنتها والعبارة مازالت تتردد في رأسها.
-حقاً ؟! ..
أهو من سئم منها ؟!
أهو الذي يهدد بتركها؟!
كلا..
مسحت دموعها بيدها قبل أن تعدّل من مظهرها لتخرج إلى المنصّة مرة أخرى، والحاجب يهتف :
-“محكمة”.
حكمت المحكمة حضورياً وبإجماع الآراء، بالسجن ستة أشهر على المتهم لازدراء الهيئة الموقرة، والاعتداء بالقول والفعل على رئيس المحكمة.

جلست في مكانها وابتسامة خفيفة ترتسم على جانب شفتيها وقد قررت الانتقام منه ..
بل منهم جميعاً.
تلك الذكور، الذئاب ..
الوحوش الآدمية ..
لابد أن يموتوا جميعاً.

اقرأ فى هذه السلسلة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى