في يوم عيدك يا سيناء 

سردية يكتبها: عادل أبو طالب المعازي

في الخامس والعشرين من أبريل من كل عام، تحتفل مصر، ومعها القوات المسلحة وأهالي سيناء، بذكرى تحرير أرض الفيروز، التي ارتوت بدماء الشهداء في سبيل استعادتها. إنه يوم من أيام المجد الوطني، استعاد فيه المصريون حقهم الذي انتُزع منهم في نكسة يونيو 1967، فكان تحرير سيناء تتويجًا لمسيرة طويلة من التضحيات والكفاح.

تتجلى مظاهر الاحتفال في عروض عسكرية برية وبحرية وجوية تنظمها القوات المسلحة، كما يُلقي رئيس الجمهورية خطابًا رسميًا في هذه المناسبة، ويتبادل المسؤولون التهاني تعبيرًا عن الاعتزاز والفخر بهذه الذكرى العزيزة على قلوب المصريين جميعًا. فسيناء لم تكن مجرد أرض محررة، بل كانت عنوانًا لإرادة أمة أبت أن ترضخ للهزيمة، وقررت أن تسلك طريق النصر مهما كلفها ذلك من ثمن.

الثمن

لقد دفع الجيش المصري ثمنًا باهظًا في سبيل تحرير سيناء، فبعد نكسة 67، لم تتوقف مصر عن القتال. خاضت حرب الاستنزاف التي أنهكت العدو وكبّدته خسائر جسيمة في العتاد والأرواح. كانت بداية تلك العمليات بإغراق المدمرة “إيلات”، ثم تدمير مواقع العدو الحيوية، ومن أبرز العمليات النوعية تفجير حفار التنقيب “كنتينج” التابع لشركة “إيني” الإيطالية، والذي اشترته إسرائيل للتنقيب عن النفط في خليج السويس، حيث جرى تفجيره في ميناء أبيدجان بساحل العاج أثناء رحلته من كندا إلى إسرائيل.

لقد شارك في حرب الاستنزاف أبناء الأمة العربية، ومنهم الأمير سلمان بن عبد العزيز، والأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود، اللذان كان لهما دور في دعم مصر خلال تلك المرحلة الحرجة. وقد أثبتت هذه الحرب أن خسارة معركة لا تعني نهاية الطريق، وأن الوحدة العربية عندما تجلت كانت سندًا للنصر، كما أعادت الثقة للجيش المصري والعربي في قدرته على القتال وتحقيق الإنجاز.

تحرير سيناء لم يكن مجرد حدث عسكري، بل محطة تاريخية تعكس قوة الإرادة الوطنية وعمق الانتماء، وهو ما يجعل من يوم 25 أبريل رمزًا خالدًا في الوجدان المصري.

ظن إسرائيل

كانت إسرائيل تظن أن احتلالها لسيناء يمنحها الحق في نهب الثروات البترولية وفرض سيادة كاملة على هذه الأرض المصرية المحتلة. وهو المنطق ذاته الذي يتكرر في سلوكها حتى اليوم، حين تتعاون مع الولايات المتحدة في السيطرة على موارد المنطقة، كما حدث في سرقة حقل كاريش اللبناني، ومن ثم التوجه لتدمير غزة بغرض نهب حقول الغاز التي كشفتها الأقمار الصناعية الأمريكية.

لكن مصر لم تستسلم لهذا الواقع المفروض. فقد استعادت سيناء أولًا بالحرب، حين خاض الجيش المصري ملحمة العبور في أكتوبر 1973، ثم واصلت طريق التحرير عبر المفاوضات التي توجت بمعاهدة كامب ديفيد، لتبدأ إسرائيل في الانسحاب التدريجي من أراضي سيناء. ومع ذلك، بقيت مدينة طابا معلقة، فخاضت مصر معركة دبلوماسية وقانونية في التحكيم الدولي، انتهت في 15 مارس 1989 بإصدار حكم نهائي لصالح مصر، يُلزم إسرائيل بالانسحاب منها.

وبتحرير طابا، اكتمل استرداد كامل تراب سيناء، ولم يبقَ على الأرض المصرية أي شبر تحت الاحتلال. وفي لحظة تاريخية فارقة، رفع الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، رحمه الله، علم مصر على أرض طابا، إيذانًا بإتمام عملية التحرير الشاملة، وتأكيدًا على أن مصر لا تتنازل عن ذرة تراب من أرضها، وأن الكفاح لاستعادة الحق يمكن أن يأخذ أشكالًا متعددة، من البندقية إلى طاولة المفاوضات، حتى قاعات المحاكم الدولية.

صمود المصريين

عيد تحرير سيناء هو عيد قومي يحتفل به الشعب المصري جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة في 25 أبريل من كل عام، تخليدًا لذكرى معارك بطولية وتضحيات جسام قدمها أبناء مصر في سبيل استعادة أرض الفيروز.

ويُعيد هذا اليوم إلى الأذهان صمود المصريين في حروب الاستنزاف، وملاحم أكتوبر المجيدة، حيث خاض الجيش المصري معارك شرسة، لم تكن فقط ضد الجيش الإسرائيلي، بل امتدت في بعض مراحلها إلى مواجهة مباشرة مع الجيش الأمريكي، وهي المواجهة التي استمرت لأيام كانت الأطول خلال الحرب.

وقد اضطر الرئيس أنور السادات في نهاية المطاف إلى قبول وقف إطلاق النار، بعد رفضه المتكرر لذلك، وذلك تحت ضغط التدخل الأميركي، لا سيما بعد إقامة جسر جوي ضخم من الولايات المتحدة إلى إسرائيل ابتداءً من اليوم الرابع للحرب، وهو ما أقر به لاحقًا وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر. هذا التدخل كان له أثر كبير على مسار الحرب، لكنه لم يمنع وقوع الصدمة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي تلقت ضربة معنوية واستراتيجية قوية، بينما أثبتت القوات المسلحة المصرية كفاءة عالية في التخطيط والتنفيذ، بالرغم من الفجوة الكبيرة في القدرات التكنولوجية والدعم اللوجستي بين الطرفين.

الرحلة

بدأت رحلة التحرير بعد حرب يونيو 1967، مرورًا بحرب أكتوبر 1973، ثم مفاوضات كامب ديفيد عام 1978، التي أسفرت عن توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في عام 1979، ونصّت على انسحاب إسرائيل الكامل من شبه جزيرة سيناء وعودة السيادة المصرية إليها. تم تنفيذ الانسحاب على مراحل، حتى تم في 25 أبريل 1982 رفع العلم المصري على مدينتي رفح وشرم الشيخ، إيذانًا برحيل آخر جندي إسرائيلي عن أرض مصر، واكتمال عملية التحرير.

وتكمن أهمية سيناء في موقعها الجغرافي الفريد، فهي نقطة التقاء بين قارتي أفريقيا وآسيا، وتمثل همزة وصل بين مصر وبلاد الشام، وبين المشرق العربي والمغرب العربي. يحدها من الغرب خليج السويس وقناة السويس، ومن الشرق خليج العقبة ومنطقة النقب، ومن الشمال البحر المتوسط، ومن الجنوب البحر الأحمر. وتبلغ مساحتها نحو 61,000 كيلومتر مربع، وتمتد على مسافة 210 كم من الشرق إلى الغرب، و385 كم من الشمال إلى الجنوب.

لقد كان نصر أكتوبر نقطة الانطلاق نحو استعادة الأرض، إذ أجبر الاحتلال الإسرائيلي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والقبول بالانسحاب التدريجي من سيناء. وبذلك أصبح يوم 25 أبريل رمزًا لإرادة الشعب المصري وقدرته على استعادة أرضه مهما طال الزمن، وبأي وسيلة كانت، من النضال المسلح إلى التفاوض السياسي.

بدأ التسلسل الزمني للصراع بين مصر والعدو الإسرائيلي بعد نكسة يونيو 1967، ودخل مرحلة جديدة من المواجهة اعتبارًا من يونيو 1968 مع اندلاع حرب الاستنزاف، وهي سلسلة من المعارك المريرة التي خاضتها القوات المصرية ضد الجيش الإسرائيلي بهدف إنهاك العدو واستنزاف قدراته.

وفي السادس من أكتوبر عام 1973، انطلقت حرب التحرير الكبرى، حيث شنت القوات المسلحة المصرية هجومًا مفاجئًا عبر قناة السويس، وتمكنت من اقتحام خط بارليف الحصين، واستعادت السيادة المصرية الكاملة على قناة السويس. شكلت هذه الحرب منعطفًا حاسمًا في الصراع، وأثمرت عن استعادة مساحة تُقدّر بـ 8,000 كم² من أراضي شبه جزيرة سيناء.

وفي يونيو 1975، استردت مصر السيادة على أجزاء جديدة من سيناء، وفي 17 سبتمبر 1978، انطلقت مفاوضات السلام التاريخية بين مصر وإسرائيل بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات، وانتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في مارس 1979. نصّت الاتفاقية على انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من سيناء، وإعادة السيادة المصرية على كامل أراضيها. ومع انتهاء هذه المرحلة، كانت مصر قد استعادت ما يقارب ثلثي سيناء، أي حوالي 32,000 كم² من إجمالي المساحة.

علامة فارقة في تاريخ مصر

وجاء يوم 25 أبريل عام 1982 ليكون علامة فارقة في تاريخ مصر، حيث انسحبت آخر وحدات الجيش الإسرائيلي من سيناء، وتم استعادة نحو 21,000 كم² أخرى، ليكتمل بذلك تحرير كامل الأراضي المصرية، باستثناء مساحة صغيرة تبلغ كيلومترًا مربعًا واحدًا في منطقة طابا.

واستمر الكفاح المصري حتى تم استرداد طابا في عام 1988 عبر التحكيم الدولي، الذي قضى بأحقية مصر في الأرض، وتم رفع العلم المصري عليها في 15 مارس 1989، ليكتمل بذلك تحرير كل شبر من تراب الوطن.

لم يقتصر الكفاح العسكري لتحرير سيناء على جهود القوات المسلحة أو رجال المخابرات الحربية فقط، بل شارك أبناء القبائل السيناوية بدورٍ بالغ الأهمية، حيث تعاونوا مع الجيش المصري في تنفيذ مهام الاستطلاع والرصد والتتبع التي استمرت لعدة شهور، وساهموا في توفير معلومات حيوية عن تحركات العدو وتضاريس المنطقة التي يعرفونها معرفة دقيقة، شبرًا بشبر.

إلى جانب ذلك، كانت هناك المجموعة القتالية الشهيرة التي حملت اسم “39 قتال”، والتي قادها الشهيد البطل إبراهيم الرفاعي، وضمت نخبة من الضباط الشجعان، من بينهم اللواء الراحل أحمد رجائي عطية، واللواء محيي الدين نوح، البطل الحقيقي الذي استُوحيت من بطولاته شخصية فيلم “الممر”. تميز رجال هذه المجموعة بإيمانهم العميق بأن أداء المهمة قد ينتهي بالشهادة، إذ نفذوا أكثر من 39 عملية قتالية نوعية، اخترقوا خلالها قناة السويس، واقتحموا خط بارليف، واستولوا على معدات للعدو، وعادوا بمعلومات ثمينة عن مواقعه، وكان لهذه العمليات أثر بارز في إنهاك العدو وإرباك خططه.

وفي موازاة مجموعة “39 قتال”، ظهرت “منظمة سيناء”، وهي مجموعة أخرى من الأبطال، تتألف من أبناء سيناء أنفسهم الذين يعرفون أرضهم بكل تفاصيلها، ومن أبرزهم الشيخ عبد الله جهامة، والشيخ علي فريج راشد، والشيخ عيسى الخرافين، وغيرهم من الأبطال المجهولين الذين لا تُحصى أسماؤهم، والذين سطروا بدمائهم وبصمتهم الوطنية صفحات من المجد.

كما شارك متطوعون مدنيون وعسكريون في جهود مقاومة الاحتلال، فأنشأت لهم المخابرات الحربية بيوتًا خاصة تلقّوا فيها تدريبات دقيقة على فك الشيفرات، وقراءة الخرائط، وتحليل الرموز، وتعلموا المهارات اللازمة لجمع المعلومات المطلوبة. وكان عمل هذه الشبكات الاستخباراتية المدنية جزءًا لا يتجزأ من منظومة العمل الوطني الذي مهّد لتحرير سيناء، وأثبت أن الدفاع عن الوطن مسؤولية يتقاسمها الجميع دون استثناء.

أعظم صور الوفاء والتقدير

كان من أعظم صور الوفاء والتقدير، ما وردني من رسالة مؤثرة من السيد اللواء عبد الحميد خليفة، بطل معركة “السبت الحزين” وأحد أبطال العمليات التي جرت خلف خطوط العدو لمدة 200 يوم. كتب يقول في رثاء أحد الأبطال السيناويين:

«بلغني اليوم خبر محزن من أحبابي أبطال جنوب سيناء الغاليين، وهو رحيل الغالي (بركات)، هذا البطل الذي يُعد امتدادًا مشرفًا لقبائل الأبطال من الحماضة والعليقات. وإني أتقدم بخالص العزاء لجميع أحبتي في جنوب سيناء، من أبناء قبيلتي الحماضة والعليقات، ولكل القبائل الأصيلة من أبطال سيناء، ولذويهم، ولكل الأهل والعشيرة من الأبطال والبطلات، من الشيوخ والشباب، في وسط وجنوب وشمال سيناء، أينما كانوا ومتى أصبحوا أو أمسوا؛ فهم جميعًا في خاطري ووجداني، أكنّ لهم كل الحب والتقدير لما قدموه لي ولمجموعتي من دعم ووفاء، خلال فترة عملنا خلف خطوط العدو في جنوب ووسط سيناء، والتي استمرت قرابة سبعة أشهر، منذ السادس من أكتوبر عام 1973 وحتى عودتنا في الثاني والعشرين من أبريل عام 1974.»

ويختتم اللواء عبد الحميد خليفة رسالته بهذه الكلمات التي تنضح صدقًا ووفاءً:
«لا تزال، وستظل، العلاقة التي تجمعني بأبناء سيناء الأبطال قوية ومتينة، تزداد صلابة مع مرور السنوات، ويزيدها بُعد المسافات الجغرافية نقاءً وعمقًا. عاشت سيناء، وعاش أهلها الأبطال، وتحيا مصر وجيشها العظيم».

طالع المزيد:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى