اللواء مصطفى زكريا يكتب: الإنسان مسير أم مخير

هناك قضايا اجتماعية على درجة من الأهمية ولكن قلما تُطرَح للمناقشة، بل تَطرُق القلب مباشرة، وقد نجدها في كتب الفقه فقط، ولا تمر علينا في دروس الفلسفة.. مع أننا نراها في تفاصيل حياتنا اليومية، من خلال فُرصةٍ مرت علينا ولم نقتنصها، وفي لقاء لم نتوقعه، وفي باب انفتح أمامنا دون أن ندرك أنه كان قادم إلينا .

واحدة من أعمق تلك القضايا وأكثرها استعصاء على الحسم :
هل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر ؟؟؟
سؤالٌ يشبه السر … نعرفه ، نحياه ، نُعذّب به أنفسنا ، ثم نعود إليه كل مرة كأننا نكتشفه من جديد .
بين العقل والقدر … أين تقف ؟
لو قلنا إن الإنسان مُخيَّر تماما ً ، فكيف نفهم “القدر” و”النصيب” ،
و”المكتوب” ؟
لماذا التقينا بهذا الشخص ، لا بغيره ؟
ولماذا سلكنا هذا الطريق ، رغم أننا فكرنا في غيره ؟
بل لماذا نُولد في بيئة دون أخرى ، لعائلة دون أخرى ، بل بإسم دون غيره ؟
ولو قلنا إن الإنسان مُسيَّر بالكامل ، فلماذا نحاسب ؟
ولماذا نُلام ؟
وما جدوى العقل إذا ً ؟ ولماذا فُرض علينا أن نختار ، وأن نتحمّل مسؤولية ما اخترنا ؟
فإذا حاولنا الجمع بين الفكرتين ، وقعنا في معضلة أخرى :
كيف يعمل “الاختيار” ، و”القدر” معا في اللحظة نفسها ؟
أليس أحدهما ينفي الآخر ؟
أم تراها خيوطا تتداخل بشكل لا يراه من هو داخل النسيج ؟
العبارة التي هدأت العاصفة والتي ارتكنت الي معناها بعد رحلة طويلة من التفكير ، والحيرة ، والانكسار أمام المجهول ، وصلتُ إلى صيغة تصالحني مع نفسي ، وتضعني أمام الله بسلام :
“الإنسان مخيّر فيما سُيِّرَ إليه.”
ليست حكمة مجردة ، بل بوصلة .
نعم نحن نختار .. ولكن داخل مساحة ضيقة ، مرسومة ، محددة .
نمارس حريتنا في أفعال جزئية ، لكنها لا تغيّر خارطة الطريق التي كُتبت لنا من قبل أن نُخلق .
نلتقي بمن نلتقي ، ونفقد من نفقد ، ونُجرّب ، ونُبتلى .. لا بالصدفة ، بل لحكمة لا نعلم مداها .
قد أختار أن أحب أو لا أحب .. لكن لا أختار من سيطرق باب قلبي .
قد أقرّر أن أسلك طريقًا مهنيًا،
لكن لا أختار من يقابلني فيه ، ولا من يؤثّر على مصيري .
الظاهر والباطن .. اختيار فوق قَدَر .
إن ما نراه “اختيارًا” .. هو الظاهر .
وما لا نراه ، هو المسار الخفي الذي قادنا إلى لحظة الاختيار تلك .
القدر هو الباطن .. أما التسيير هو الخيط الذي إجترك إلى المسرح ،
والتخيير هو كيف ستؤدي على الخشبة .
أنت لم تختار المشهد ..
لكن طريقتك في الأداء هي التي تُحاسب عليها.
فالإيمان لا يُلغي العقل .. لكنه يُهذّبه .
أعتقد أن التصالح مع هذه المعادلة وبهذه الكيفية قد يمنحك راحة نادرة :
أنك مسؤول لكنك لست متروكا ً .. تتحمّل لكنك لا تُعذَّب ، تختار لكنك في حضن علم ٍأكبر منك .
ولهذا ؛ فإن الإيمان لا يُلغي العقل .. بل يعلمه متى يصمت ، ومتى يسأل ، ومتى يخضع .

كلمة أخيرة
“ الإنسان مُخيَّر فيما سُيِّر إليه ”
هي ليست تسوية فكرية .. بل إقرار إيماني بواقعنا الإنساني .. فيها تُصان العقيدة من الانجراف ويُكرَّم العقل من الإلغاء ، وتطمئن النفس بأنها تسير في درب ٍ رسمه الله ، لكنها مسئولة عن كيفية السير فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى