محمد قدرى حلاوة يكتب: تلك الروائح

بيان
بواكير السبعينيات من القرن الماضي.. أطل برأسي من ثنايا شباك صغير في نهاية غرفة “الجلوس”.. تتراقص أمام عيني ألسنة اللهب المستعر من بعيد.. ” الجد” يجلس بهدوء دافعا بيده ذراع “السبرتاية” جيئة وذهابا.. عود كبريت يتطاير منه بعض الشرر كفيل بإشعالها.. سرعان ما تنتشر رائحة” القهوة” الذكية.. يصب ” الجد” فنجانا منها بحرص شديد لم يمنع تساقط بضع قطرات منها على المائدة.. ارتعاشة يده صارت جلية.. يشعل سيجارة” سوبر” ويطلق سحابة من الدخان بلذة شديدة.. ” ما هذه النيران يا جدي”؟ تساءلت.. أجاب بهدوء ” حريق في مسجد محمد علي”.. وضع ” الكستبان” النحاسي على الشعلة البنفسجية للفتيل فأنطفأت على الفور وصمت حسيسها.. ربما يستطيع جدي إطفاء نيران الحريق التي تضيئ حلكة الليل.. قادر على ذلك بالتأكيد.. يبتسم إبتسامة دافئة وهو يقول: ” المطافي هتطفيها دلوقتي”.. يخلع نظارته السمكية واضعا مفكرته الصغيرة المليئة بالأرقام الحسابية على ” مفرش” المائدة المرتسم بالورد – مع بعض ثقوب الدخان وخربشات الألوان الشمع – يشرد بعيدا وصوت ” أم كلثوم” ينطلق محتلا الفراغ والصمت:
“ما زلت في وحدتي أسامرها..
حتى سرت فيك نسمة السحر..
وأنا أسبح في دنيا تراءت لعيوني..
قصة أقرأ فيها صفحات من شجوني”..
” مش هتدخل تنام بقى” تقول ” الجدة” وهي تمسح رأسي بيديها.. تأملت في عروق كفها النافرة وشقوق التجاعيد.. ” هيه ليه إيدي مش زي إيدك يا نينة؟ “.. ” الزمن يا بني.. ربنا يسعدكوا ويفرحكوا أنتوا واللي زيكم.. قوم نام بقى بطل غلبة “.. ” بس خلي النور مفتوح يا ستي “.. اختفي تحت ” اللحاف ” الثقيل.. يبدو أن الجدة متعبة بعض الشئ لن تروى لي ” الحدوتة” اليوم.. شعرت بجسدها الضئيل يتمد بجواري.. رفعت وجهي المدفوس تحت الدثار متسائلا”: ” المطافي طفت الحريق ولا لسه؟ “..
” عنده حصبة ألماني ” قال” الطبيب ” ومعدن” سماعته ” البارد يتنقل على صدري الملتهب.. ” ياه ده أنت سخن قوي..” قالها وهو يخط خربشات غير مفهومة على ورقة بيضاء.. ” كمل بقية أكلك أحسن اللقمة تجري وراك في الآخرة” تقول ” جدتي” .. ” وما الآخرة؟.. وهل تستطيع اللقمة الركض مثلنا؟!.. ” هأقولك بس كمل أكلك”.. قالتها وهي تردد” رقيتك وأسترقيتك من عين فلان.. وفلان.. ومن عين كل اللي شافك ومصلاش على النبي “.. أحرقت العروسة الورقية المثقبة بوخز الإبرة ومسحت الرماد على جبهتي.. دلوقتي تخف وتبقى عال”.. سعلت بعض الشئ من رائحة” البخور ” المعتق.
لم تجيبني” الجدة ” على أسئلتي أبدا.. لكنني عهدت معنى ” الآخرة” عندما شببت بعض الشئ.. علمته بينما كنت أقف بجوار فراش ” جدي” ووجهه مغطي بملآة باهتة.. لم تجري ورائي اللقمة أبدا.. ” فالجدة ” كانت تترك لنا الطعام الطازج وتأكل دوما بواقي البائت.. ” الكتاكيت ” الصغيرة التي تمضي هنا وهناك كان لها نصيب أيضا من قطع ” الخبز ” المبلول وبعض ” الأرز” .. قبلت قطعة من الخبز وهي ترفعها نحو جبهتها مرات عدة مقبلة ظاهر كفها وباطنه ” نعمة ربنا أوعى تتبطر عليها”.. لم أعلم معنى البطر حينها و لم أسأل.. لم أنسى أيضا أبدأ الرماد الأسود ويدها الجعدة تمسح به جبيني.. لعلني أفتقد رائحة ” البخور”.. و “القهوة “.. وصوت أزيز ” الراديو” وضبط المؤشر على إذاعة ” أم كلثوم”.. ربما مررت بحرائق كثيرة أخرى في رحلة الزمن ظلت مشتعلة.. لم يطفئها كستبان “جدي”.. ومازلت أضع الغطاء على وجهي.