محمد قدرى حلاوة يكتب: الحرب المقدسة

بيان

عندما يعبر الشارع مُلقيًا السلام على من يمر به، كان الأطفال يهللون. دقائق ويفتح “عم سلامة” حانوته، ويُلقي إليهم ببعض قطع الخشب القديمة و”النشارة”، ليبدأوا لعبة الحرب متبارزين بقطع الخشب، وملقين “بالنشارة” على الفائز بالنزال، كالقادة الظافرين العائدين من المعركة، والعامة تُلقي عليهم بأوراق الورد والياسمين وأكاليل الغار.
لم يكن “عم سلامة” يتبرم أو يضجر أبدًا من كل هذا الكر والفر والضجيج الذي يحدث أمامه، ولا من فراغ “قلل” المياه الباردة التي كان المتحاربون يهرعون إليها عطشًا وظمأً من حرارة الجو ودأب القتال. كان يقوم بكل هدوء ولطف ليملأها ثانية من “حنفية” الزاوية، ليعود من جديد لممارسة عمله بعد وصيته الأثيرة: “خدوا بالكم من المحل يا ولاد”.

كان “عم سلامة” في أواسط العمر، لم يُودِّع مرحلة الشباب بالكلية، وكذلك لم يخطُ في طريق الكِبَر بخطوات واسعة. تميّز بانحناءة (حدب) واضحة في ظهره (ما نُسميه في اللغة الشعبية “أتب”)، نحيل الجسد بطريقة ملحوظة، كث الشارب، حليق الذقن، له عينان غائرتان في محجريهما، إحداهما فقدها إثر إصابتها بقطعة متطايرة حادة من الخشب، وتلونت حدقتها باللون الرمادي. وكِلاهما مُحاط بهالة سوداء واضحة كأنها الكحل.
يرتدي جلبابًا بلديًا مفتوح الصدر، جادّ القسمات والملامح، عدا ابتسامة وُدٍّ مرتسمة حين يُلقي السلام والتحية أو يتحدث مع أحد.

كان نجّار “طَبَالِي” بارعًا، يأتي إليه أفراد الحي من كل المناطق والحارات والعطوف، وكان لا يساعده أحد في عمله. يظل جالسًا على الأرض طوال اليوم، باسطًا قدميه، ويأخذ في نحت “قرص الطبلية” وتركيب أجزائها وأقدامها القصيرة، مُثبّتًا إياها بـ”المسامير” الرفيعة التي يحتفظ بها في فمه.
وعلى أذنه اليمنى “قلم رصاص” لا يُفارقها أبدًا، كأنه جزء منها، يتناوله من حين لآخر ليخط به على الخشب خطوطًا محددة، مُتناولًا فرخًا من “الصنفرة”، مُمررًا إياها على الخشب حتى يُصبح أملس، غامسًا بعدها فرشاة بنية اللون في محلول الطلاء ذي الرائحة النفّاذة، لتُصبح “الطبلية” جاهزة زاهية اللون.
يجلس بعدها لبعض الوقت للراحة واحتساء كوبٍ من الشاي، وحجرٍ من “المعسل”.

رغم انتشار غرف “السُّفرة” حينها و”المناضد”، إلا أن “الطبلية” كانت جزءًا من التراث العائلي. يجلس حولها أفراد الأسرة جميعًا القُرفصاء، يتناولون الطعام متقاربين متلاصقين. كانت لحظة “فرد” الطبلية إيذانًا باجتماع الأسرة، وكانت فرصة لتبادل الأحاديث الحميمة، والاطمئنان على الأحوال، وطرح أسئلتنا التي لا تنتهي، وفضولنا النهم.
شيئًا فشيئًا أخذت “الطبلية” تتجمّد في مكانها، واقفة مستندة إلى حائطٍ مهمل (إلى أن اختفت بعد حين إلى الأبد). صارت “السُّفرة” موضعًا أكثر رفاهية وتحضّرًا للتجمع حول الطعام. ومع مرور الوقت، طغت ثقافة “الوجبات السريعة” و”التيك أواي”، وأصبحت الغالبية تتناول الطعام على عجل، منفردة وحيدة، بلا أحاديث ولا قرب، وتحولت “الطبلية” إلى رمزٍ للحنين، وقبلةٍ للشوق والذكريات.

“عم سلامة” لم يكفّ عن صنعته. كان يعلم أن البساط يُسحب من تحت قدميه، لكنه أبى الاستسلام. مضى يكدح طوال اليوم، ويسافر كل “جمعة” إلى الأرياف ليروّج بضاعته. كان هناك من لا يزال يُثمِّنها ويرغب بها، هناك حيث الزرع لا يحيا إن انفصل عن جذوره.
وظل أطفال الحي (وإن قلّ عددهم حين انتشر جهاز الأتاري) يستبشرون بقدومه كل يوم، وهو يعطيهم قطع الخشب و”النشارة”، مواصلين حربهم الأبدية، وهم لا يعلمون أن هناك حربًا مقدسة أخرى تدور بلا توقّف بين القديم والجديد؛ تلك الحرب التي ينتصر فيها الجديد دومًا، مهما كان غثًّا، ليفسح مكانه بعد حينٍ للأكثر تجدُّدًا وحداثة.

اقرأ أيضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى