اللواء مصطفى زكريا يكتب: العقل الجمعي وتأثير الإعلام الحديث في تشكيل الوعي

في عصر تتدفق فيه المعلومات من كل اتجاه، وتتنافس فيه الوسائط الإعلامية على تشكيل الرأي العام، تبرز الحاجة لفهم العلاقة العميقة بين العقل الجمعي والإعلام، باعتبارها علاقة تأثير متبادل تُعيد تشكيل المجتمعات وتوجه سلوك الأفراد والجماعات .
ولتوضيح الفكرة لابد أولا أن نشير إلي ما هو المقصود بالعقل الجمعي ؟
كما صاغه العالم والباحث في علم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ” إميل دوركايم ” .. هو ذلك المخزون الثقافي المشترك من معتقدات وقيم وأفكار وسلوكيات تشكل وعي المجتمع وتوجه أفراده دون وعي مباشر .. بمثابة “ اللاوعي الاجتماعي ” الذي يحدد ما يُعتبر طبيعياً .. أو غريباً ، مقبولاً .. أو مرفوضاً .
في الماضي ؛ كانت العادات والتقاليد والدين والتعليم هي المصادر الأساسية لتشكيل العقل الجمعي .. أما اليوم ، فقد أصبح الإعلام – التقليدي والرقمي – هو اللاعب الأقوى في هذا التشكيل .. وأصبح الإعلام من أهم عوامل صناعة العقل الجمعي من خلال ادواته المتنوعه والمتعددة مثل المنصات الإخبارية ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، والدراما ، والإعلانات ، كلها أدوات تعيد برمجة هذا العقل ، وتُعيد إنتاج الصور الذهنية ، بل وتُنتج “ حقيقة جديدة ” .. تتجاوز الواقع أحياناً .
ومن آليات التأثير الإعلامي على العقل الجمعي ؛ التكرار والاعتياد في الرسائل الإعلامية مما يؤدي إلى ترسيخها في الوعي العام ، فتصبح جزءا ً من المسلمات .
الإعلام لا يعكس الواقع فقط ، بل يشارك في تصنيع الرأي العام ويُعيد تشكيله عبر اختيار الأخبار ، وترتيب الأولويات ، وإبراز زوايا دون أخرى ..
باستخدام وسائل متنوعه مثل الصور والموسيقى واللغة العاطفية والتي تسهم في تحول المتلقي من مفكر ناقد إلى متفاعل عاطفي ، ما يسهل غرس الأفكار .
وقد يستغل ذلك أحيانا ً في الترويج لنمط “ إما معنا أو ضدنا ” ، مما يغذي الانقسام ويجعل المجتمع يرى العالم بعدسة ضيقة .. فيما يسمي بالثنائيات الزائفة .
ومن هنا تتضح قوة الإعلام في احداث تأثيرات قد تهدف الي توحيد السلوك وردود الأفعال تجاه قضايا معينة .
لذا يندرج الاعلام من ضمن مكونات حروب الجيل الخامس .. لما له من قدرة علي اثارة الذعر أو الحماسة الجماعية في الأزمات ، لتحريك الناس نحو رد فعل جماعي غير عقلاني أحياناً .. مع الإيحاء لمن يخالف سرد إعلامي معين وكأنه خائن أو شاذ عن القاعدة، حتى دون دليل عقلاني .
ومن هنا يأتي دور الدولة في العمل علي زيادة الوعي الثقافي والسياسي والإجتماعي لدي المتلقي .. لحماية الفرد من التأثر المغلوط التأثر .. وتحصينه بالقدر الذي يمكنه من قراءة ما يسعي اليه الإعلام الخارجي من خلال قنوات مشبوهه لها توجهها ودوافعها .. دون الاخلال بحرية الفرد بل بتعزيزه بالتفكير النقدي البناء والتحقق من المصادر ، والانفتاح على وجهات نظر مختلفة .. وهذا بدوره يعزز مناعة الفرد ضد التلاعب بالعقل الجمعي ، ويسهم في تطوير مجتمع أكثر وعيا ً واستقلالا ً في تفكيره .
إن العقل الجمعي ليس ظاهرة ً سلبية ً بحد ذاته .. بل هو ضرورة لانسجام المجتمعات . لكن خطورته تظهر عندما يُختطف من قبل أدوات إعلامية تسعى للهيمنة أو التحريض . لذا ، فإن الوعي بآليات تأثير الإعلام وامتلاك أدوات النقد والتحليل أصبح ضرورة أخلاقية وثقافية لحماية الفرد والمجتمع من الوقوع في أسر “ الوعي الموجّه ”.