محمد قدرى حلاوة يكتب: غد لا يأتي أبداً

بيان

جلس على الرصيف يحتسي كوبًا من الشاي الأسود الثقيل. كان يضع أمامه بضعة أدوات حديدية كالإزميل والمطرقة، وقد ربطها بقطعة من الدوبار السميك.

ركز عينيه على الطريق والسيارات المارة، بينما ذهنه قد شرد بعيدًا، هاربًا فرارًا من ضجيج العاصمة وصخبها، كأنه قد عاد يضرب بفأسه الأرضَ البِكرَ الخضراء ويملأ رئتيه بالهواء المنعش النقي في طريق عودته إلى بيته الريفي البسيط.

وقفت سيارة أمامه فجأة، فهب واقفًا، وقد تدافع آخرون معه نحو قائد السيارة. نظر قائد السيارة إليهم زاجرًا، قائلاً بلهجة حاسمة: “أنا مش عايز غير اتنين… تعالَ أنت وأنت.” قفز حاملًا عدته البسيطة إلى المقعد الخلفي للسيارة، وهو يتمتم حامدًا ربه بصوت خافت على أنه وجد عملًا في ذلك اليوم ولم يجلس عاطلًا كسابقه.

أخذ يؤدي عمله بنشاط… يحمل الأثقال صاعدًا هابطًا، ولم يبدُ عليه الكلل، وإن غطى جبينه عرقٌ غزيرٌ أخذ يتساقط من بين تجاعيد وجهه على جلبابه القديم.

انتهى من عمله وقد أنهكه الجوع، وظهرت على قسمات وجهه أمارات التعب. تقاضى حفنة يسيرة من النقود بيده اليمنى، قبض عليها، بينما أخذ يُقبِّلها – يده اليمنى – ظهرًا وقلبًا، مرددًا عبارات الشكر لله جل وعلا، رافعًا إياها نحو جبينه، بينما يمسح بطرف ثوبه – كمه – عرقه الغزير بيده الأخرى. حان الآن وقت الطعام، فأخذ يلوك الطعام بنهم، وقد ذهب ذهنه بعيدًا يلح عليه بسؤال يؤرقه…

لماذا لا تعود إلى قريتك؟ وإلى متى تترك عمرك يُسلَب في مدينة لا ترحم، لا أنت تعرفها ولا هي تعرفك؟ وإلى متى يستمر نزف عمرك وروحك وغربتك بلا ضمادة؟

وضع رأسه على الحشية الممزقة، ومدّ جسده على الحصيرة الممددة داخل أحد مواقع البناء الجديدة التي يعمل بها أحد أقاربه. التحف ببطانية سوداء من الصوف الثقيل، وغطّى وجهه، وقد مزقه الحنين إلى أرضه وبيته وعائلته الصغيرة. قرر أن يترك العاصمة ومتاهتها، ويعود إلى قريته غدًا عندما يستيقظ… وارتاحت نفسه واستكانت روحه، وراح يغطّ في سبات عميق.

استيقظ مع نور الصباح، ومضى مهرولًا وقد صبّ المياه على وجهه من زيرٍ قديم. قفز في الحافلة المزدحمة، وتناول طعامه البسيط. جلس على الرصيف، وأخذ يحتسي كوبًا من الشاي الأسود الثقيل، وقد ركّز بصره على الطريق والسيارات المارة، وذهنه شاردٌ بعيدًا… بعيدًا.

اقرأ ايضا للكاتب:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى