باسم العاصى يكتب: الرقة التي تُغتال

بيان

ما إن تبدأ في قراءة رواية الرقة التي تُغتال للفرنسية فرانسواز دورنيه، حتى تجد نفسك مأخوذًا بسردية تكاد تؤثرك من فرط بساطتها، حيث تجد نفسك أمام علاقة إنسانية تمثل نداءً لفهم عميق لطبيعة الضعف الإنساني في سياق اجتماعي يتسم بالجفاء العاطفي ويفتقر إلى الترابط الأسري.

تلتقي البائعة الشابة بولين بآرماند، أستاذ الفلسفة المتقاعد الأرمل. خمسون سنة تفصل بينهما، لكن الإحساس العميق بالوحدة يكويهما، وتقوم بينهما علاقة تعلو بمشاعرها على الزمان والكلمات؛ مشاعر جليلة، غامضة، غير موصوفة، تشع خيرًا وجمالًا، مصدرها النفوس الرقيقة المحبة للضعفاء في زمن لم يعد فيه الفرد يمتلك الحق بأن يكون عجوزًا ينعم بالتواصل والعاطفة.

يتأثر أستاذ الفلسفة آرماند بشابة بسيطة على سجيتها، عندما تتعاطف معه بعدما يعامله شاب بغلظة إثر ارتطامه به بسبب التوقف المفاجئ للحافلة وسقوط عكازه. تلتقط بولين العكاز بشكل تلقائي وتعيده له، وتعرض عليه أن ترافقه إلى البيت.

لقد فقد منذ زمن أن يهتم به أحد، فإن ولده يسكن بعيدًا عنه، ولا يتواصل معه إلا قليلًا، وابنته مهاجرة مع زوجها في كندا. يعيش وحيدًا في بيته في باريس، يتذكر كيف كان فيما مضى يسيطر على أجيال من الطلاب بمنطق وفلسفة العبث، وباختيار الموت ردًا على العدم!

ولكن سرعان ما تتطور العلاقة بينهما، ويتساءل عن سر انجذابه لها: هل هي رقتها وبراءتها التي لم تُلوث بعد بالحياة؟ أم هي الحاجة لأن يخلق لنفسه غاية ما، ولو كانت فقط لتمرير الوقت؟

يحاول آرماند أن يجاري شبابها وحيويتها، ويستمتع بأسئلتها البريئة، بعد أن نعرف أنه كان يدرّس الفلسفة، فهي لم تُكمل دراستها، وتتم مناقشات عن معنى الحياة وفوائد قراءة الكتب. فتقول إنها سمعت ممثلًا في التلفاز يقول إن الكتب تعزّي وتعوّض عدم حصولك على أشياء في الحياة، فيرد آرماند:

“أستطيع أن أجيبك بأن: سبينوزا قال ذلك، وكانط يقدّر بأن… وشوبنهاور يضيف، وسارتر يعترض، ولكن بماذا يفيد كل هذا؟
اسألي نفسك، بولين: ما هو الوجود؟ الوعي؟ الحكم؟ المسؤولية؟ وسنرى إن كان أيٌّ من هؤلاء العجائز الميتين قد فكر بالأمور بنفس طريقتك…
ما أريد قوله، بشكل أو بآخر، إن الكتب لن تفيدك في شيء إن لم يكن لديكِ بداخلك، وبداخل روحك، مشروع أو توجه ما يقودك.”

تنظر بولين إلى آرماند على أنه جدّها، فهي بلا أسرة. وينتاب آرماند مشاعر متضاربة؛ فيتمنى لو تكون نظرتها مختلفة، رغم فارق السن، ولكن سرعان ما يتحكم في خيالاته المبعثرة بين ماضي شبابه وحاضر واقعه، وما يفرضه عامل الزمن ومسؤولية المعرفة، ويتساءل: إلى ماذا يمكن أن يفضي لقاء بين حياة تنتهي وحياة على وشك أن تبدأ؟ ويقنع بنظرة الجدّ، لأنها الأنسب لسنه، واحترامه لنفسه، ولضمان ديمومة هذه العلاقة التي حرّكت فيه من جديد بواعث حبّ الحياة.

ولكن آرماند ينتكس نفسيًّا، ويحاول الانتحار، الفكرة التي طالما سعى لفهمها نظريًّا مع كبار الفلاسفة. لكن، هل كانت هذه المحاولة بدافع مفهوم العبثية الذي طالما درّسه لطلابه؟
لقد حلم لبضعة أيام أن يحيا كالآخرين، ولكن ما هو موقع بولين بالنسبة له؟ إنها لن تكون يومًا زوجته، أو ابنته، أو عشيقته. لديها ألعاب تناسب عمرها.
أم أن تلك المكالمة من ابنته في كندا، التي تطالبه بحصتها في الميراث وهو على قيد الحياة، كانت القشة الأخيرة؟

كل تلك الأفكار كانت تهاجم آرماند، وتفشل محاولة الانتحار – ربما لعدم جديتها – أو لكونها نداءً لأبنائه.

يهرع ابنه إلى المستشفى، ويجد بولين بجانبه، ويختلط عليه الأمر: أهي ابنته غير الشرعية؟ أم عشيقته؟
كان آرماند في تلك اللحظات وسط متاهة من الأفكار والانفعالات، وقال لنفسه:
“لقد قمتُ بفعل الانتحار، وما زلت حتى الآن لا أعرف إن كان ذلك عملًا شجاعًا أم جبانًا أم أنانيًّا.”

ها هو آرماند الفيلسوف يكتشف أنه عندما ننتقل إلى التطبيق، يصبح من الصعوبة العودة إلى النظرية.
إن الانتقال إلى الفعل هو مسألة تتعلق بمنظورنا ورؤيتنا للأشياء، بالوعي بحقيقة ما أصبحنا عليه.

يعيد آرماند بعد تلك الحادثة اكتشاف علاقته بابنه، وما كان بينهما من حواجز نفسية، ويحاول كلٌّ منهما أن يعيد فهم الآخر.
أكان يجب أن نلتقي بآخرين كي نعيد اكتشاف أنفسنا؟

تسير الأحداث بعد تلك الحادثة، وهي تثير فينا كثيرًا من التأمل، واكتشاف كثير من الأمور تحت السطح، لم نكن ندركها بهذا العمق الذي يحرّك عقولنا ومشاعرنا.
فالصيغة الفنية للرواية كانت من البساطة بحيث عبّرت عمّا لا يطاوله الوصف، بتقنية سردية مباشرة، تتمركز على الشخصية في أزمتها، المتمثلة في عامل الزمن والوحدة واللامبالاة، وتحليل نفسي بأسلوب عاطفي، بعيد عن الميلودراما، بواقعية خيالية في معناها الأسمى، وبمضمون إنساني مفعم بالتوتر العاطفي والذهني، بحيوية تلقائية تكشف ما وراء النص، من دون رموز فلسفية وتعقيدات الشعور الباطن.

ينهي آرماند حياته بطريقة غير مباشرة، بعد أن يؤمّن مستقبل بولين، وتنتهي الرواية بضمير الغائب، لتضع مسافة بينها وبين الأحداث، بعد أن يتأثر القارئ ببولين، تلك الإنسانة العفوية الحساسة، التي تعرف بشكل فطري كيف تمنح الحب والاهتمام، دون افتعال أو كذب، بعد أن قررت أن تتبنى آرماند كجدٍّ لها.

اقرأ أيضا للكاتب:

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى