عبدالحليم قنديل يكتب: يقظة أوروبا على صوت فلسطين

بيان
فى الأيام والأسابيع الأخيرة ، جرت تحركات أوروبية أعلى صوتا ضد حرب الإبادة والقتل الوحشى والتجويع والتعطيش بالجملة فى “غزة” ، بدت التحركات الجديدة مفاجئة للبعض ، وقارن الكثيرون عن حق بين اليقظة الأوروبية النسبية وبين الموات العربى والإسلامى ، رغم أن مآسى “غزة” ومحنة فلسطين تجرى فى قلب العالم العربى والإسلامى ، ويفترض أن تكون المشاعر والضمائر أكثر حرارة وفيضانا عند شعوب الدول العربية والإسلامية ، وأن تكون الحكومات العربية والإسلامية أكثر مبادرة ونشاطا.
لكن ما حدث ويحدث هو العكس بالضبط ، وباستثناءات محدودة أهمها فى اليمن وفى “صنعاء” بالذات ، بينما بدا العالم العربى ـ وقبله العالم الإسلامى ـ غارقا فى الصمت والتبلد وخذلان “غزة” واللامبالاة بالدم المسفوح.
بل ذهبت بعض حكومات العالم العربى إلى تقديم الهدايا للقتلة ، ورمى تريليونات الدولارات تحت أقدام الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” ، ربما ليدفع من عوائدها مالا وسلاحا ومشاركة بحروب كيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، وتشجيعه على الإيغال فى تدمير وإبادة وتهجير الفلسطينيين ، والاستيلاء على أراضى دول عربية مجاورة ، وتقويض أى تحرك عربى مشترك ولو كان صوريا ، على طريقة استجابة أغلب الحكام العرب لأوامر “ترامب” ، وامتناعهم عن المشاركة اللائقة فى قمة “بغداد” العربية الأخيرة ، ثم اكتفاء القلة التى حضرت بمناشدة “ترامب” القاتل نفسه أن يفعل شيئا لوقف حرب الإبادة.
ومن دون أن تسأل هذه الحكومات نفسها عما تفعله هى ، ولا أن تبرئ ذمتها من أوزار التواطؤ العاجز ، ولا أن تفكر حتى فى قطع علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع حكومة كيان الاحتلال ، حتى وإن أنهى بعضها ـ كما مصر ـ علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان على نحو مكتوم ، ولكن مع إبقاء الوجوه الأخرى الأخطر للعلاقات رغم التوتر المتزايد على الجبهة المصرية.
ورغم أن الرئيس المصرى قالها بوضوح فى قمة بغداد ، وأعلن أن تطبيع كل الدول العربية مع “إسرائيل” لا يعنى كسبا لسلام ولا لأمن ، وأن استعادة بعض الحق الفلسطينى وقيام الدولة الفلسطينية ، هو وحده الذى يصنع السلام ويكفل أمن المنطقة .
وقد لا يكون موقف الحكومات العربية فى حاجة إلى شروح ، فأغلب هذه الحكومات ـ إن لم تكن كلها ـ مقطوعة الصلة بحس شعوبها ، ومفروضة بالقوة والقسر فى قصور الحكم ، وتحظر التظاهر الشعبى لنصرة الشعب الفلسطينى ، وتخشى أن يتحول التظاهر تضامنا مع الفلسطينيين إلى تحرك ضد نظم التخاذل ذاتها.
وبعض هذه الحكومات تعلن جهارا نهارا كفرانها بالقضية وبالحق الفلسطينى ، ولا تخفى تحالفها الفعلى مع كيان الاحتلال ، وسعيها لدعمه وتمديد سطوته فى المنطقة ، والعداء المطلق لأى حركة مقاومة فلسطينية أو غير فلسطينية ، وعملها الدائب لنزع سلاح المقاومين ، بل والتبرؤ من أى صفة عربية كانت ، حتى ولو كانت قبرا من رخام على طريقة الجامعة العربية وقممها الموءودة ، والتحول إلى روابط بديلة عسكرية وسياسية ، تكون “إسرائيل” مركز قيادتها ومحركها بالوكالة عن الحماية والرعاية الأمريكية ، وبدعاوى تمويه ضالة ، من نوع أولوية مواجهة الخطر الإيرانى ، وإحلال طهران فى مركز العداوة بدلا من “تل أبيب” .
من هنا ، تبدو المفارقة ظاهرة ومفهومة بين الموات المفجع للضمير العربى الإسلامى وبين الصحوة النسبية للضمائر الأوروبية ، ففى أوروبا لا توجد حكومات “عربية” تقمع وتقهر أهلها ، وتحظر التظاهر الشعبى .
وفى عواصم أوروبا الكبرى والصغرى ، كانت مظاهرات التضامن مع الفلسطينيين تتدفق إلى الشوارع والميادين ، وعلى نحو بدا تدريجيا وتصاعديا عبر عشرين شهرا من حرب الإبادة والتقتيل الوحشى فى “غزة” والضفة الغربية ولبنان ، وإلى أن بدت حركة التظاهر كانشقاق مؤثر فى المشهد الأوروبى ، بين فئات شعبية تحتكم إلى الضمير الإنسانى ، وبين حكومات من اليمين ومن اليسار ، ورثت وواصلت موقفا أوروبيا داعما مواليا بالخلقة لكيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، ومحتضنا للحركة الصهيونية ، التى دمجت نفسها منذ البواكير مع الثقافة الغربية الأوروبية ، ومع حكومات أوروبا الإمبريالية الاستعمارية ، ومع الشعور الأوروبى باقتراف الذنب والتقصير فى حماية اليهود من الافتراس النازى فى الحرب “العالمية” الثانية.
وهكذا تحول اليهود من ضحايا وعبيد لنسق الغرب الأوروبى فى العصور الوسطى ، ثم لنسق العنصرية الأوروبية فى طورها الألمانى النازى ، وإلى أن بدت الحركة الصهيونية ـ فى التعريف الأوروبى ـ كحركة تحرير لليهود من استعباد أوروبى متطاول المدى ، بينما لم تكن لليهود من مظلمة تذكر فى العالم العربى الإسلامى ، وأرادت أوروبا العنصرية الاستعمارية حل مشكلة يهودها على حساب العرب والمسلمين بالذات.
وتوالى اندفاع الخطى الأوروبية على ما يعرف الكافة ، بدءا من “وعد بلفور” البريطانى ، وإلى تسهيل بريطانيا ـ التى كانت عظمى ـ لإقامة كيان الاحتلال فى فلسطين ، ثم احتضان بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين للكيان ، وإلى أن حلت أمريكا فى قيادة الدور نفسه ، بعد قطع ذيل الأسد البريطانى فى حرب السويس 1956 ، ورغم التحولات التى جرت فى الأدوار العالمية ، إلا أن الرأى العام الأوروبى فى أغلبه ، ظل على عادات التأييد والدعم المطلق لكيان الاحتلال “الإسرائيلى ” ، الذى جرى تصويره كقطعة من الحضارة الغربية ، وكمنارة للديمقراطية الغربية فى منطقة متخلفة مظلمة .
ومع صعود أمارات التحدى العربى لكيان الاحتلال وتوالى ظهور حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية ، بدت علامات تشقق هامشية فى مشهد الرأى العام الغربى والأوروبى بالذات ، بلغت ذروتها فى شهور حرب الإبادة الجارية ، وإن بدت حركة التظاهر فى الشارع بعيدة عن التأثير فى مواقف الحكومات ، ولعب التطور الهائل فى وسائط الاتصال والشبكات الاجتماعية دورا ملحوظا ، فقد كانت حرب “غزة” أول حرب إبادة مرئية للكل فى مطلق التاريخ الإنسانى ، وتكفل النقل المرئى اللحظى بالصوت والصورة فى يقظة ضمائر أوروبية غير مسبوقة .
ولوقت طويل مضى ثقيلا محبطا ، بدا أن مظاهرات الشوارع الأوروبية فى جانب من المشهد ، بينما ظلت مواقف الحكومات فى أغلبها على الجانب الموالى بإطلاق لسردية كيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، وإلى أن بدأت المواقف الحكومية فى التشقق تأثرا بما يجرى فى الشوارع والجامعات ، وتتابعت موجات التغير النسبى فى مواقف الحكومات المنتخبة ديمقراطيا ، وشهدنا موجة أولى فى تغير مواقف حكومات “أيرلندا” و”أسبانيا” و”النرويج” و”سلوفينيا” و”بلجيكا” وغيرها ، التى توالت اعترافاتها بحق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم على الأراضى المحتلة فى حرب 1967.
ثم مرت مرحلة طويلة من تباطؤ الإيقاع ، وإلى أن وصلنا إلى المرحلة الأخيرة مع حملة خنق وتجويع “غزة” ، وإعلان مواقف جديدة من دول أوروبية ، عرفت تاريخيا بالتصاقها مع حركة كيان الاحتلال تسليحا وتمويلا ، ورأينا البيان المشترك لبريطانيا وفرنسا وكندا عبر المحيط الأطلنطى ، الذى ندد بما أسماه “السلوك المشين” لحكومة الاحتلال ، ولوح بتوقيع عقوبات على حكومة “بنيامين نتنياهو” ، وطالب بفتح معابر المساعدات الإنسانية فورا ، وإيقاف حرب الإبادة فى “غزة” وتجميد الاستيطان فى الضفة.
ثم تطور الموقف المعلن إلى حدود أبعد ، بإبداء الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية ، وكان لافتا ، أن حكومة بريطانيا التى لعبت الدور الأكبر تاريخيا فى إنشاء كيان الاحتلال ، راحت تستدعى سفيرة “إسرائيل” فى لندن لتوبيخها ، وتعلن وقف مفاوضات تطوير اتفاقية التجارة الحرة مع “إسرائيل” .
ولم يكن ذلك ليحدث على محدوديته ورمزيته ، إذا لم تكن حركة التظاهر المؤيد للحق الفلسطينى قد تطورت ، وبلغ عدد المشاركين بإحداها نحو نصف مليون متظاهر ، وهو ما جرى مثله فى عواصم ومدن أوروبية أخرى ، فقد تظاهر مئة ألف فى “لاهاى” الهولندية حيث محاكم “الجنايات” و”العدل” الدولية ، ودعت الحكومة الهولندية إلى مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبى و”إسرائيل” ، وهو ما يلقى إلى الآن تأييدا ظاهرا من أغلب أعضاء الاتحاد الأوروبى (17 دولة مؤيدة) ، وربما يواجه معارضة وتعطيلا من حكومة ألمانيا اليمينية بالذات ، وعلى عكس حكومة “أسبانيا” ، التى ذهبت إلى موقف أكثر تقدما ، وأقر البرلمان الأسبانى بالأغلبية مبدأ مراجعة ووقف صادرات السلاح وغيرها إلى كيان الاحتلال.
ثم كان الغضب الأوروبى العام بعد إطلاق جيش الاحتلال النار على موكب الدبلوماسيين الأوربيين على مشارف مخيم “جنين”، والتهديدات الأوروبية الأوسع بفرض عقوبات على الكيان .
وقد يرى البعض ، أن الحراك الأوروبى الرسمى ليس كافيا بعد ، وهذا صحيح طبعا ، وإن كان لا يصح إنكار ما جرى من تغير نسبى ، دفعت إليه تراكمات مظاهرات الشارع الغاضبة فى بيئة ديمقراطية ، لعبت فيها الجاليات الفلسطينية والعربية دورا بارزا ومؤسسا ، فقد تكفل فلسطينيو أوروبا بدعم ونصرة شعبهم الفلسطينى فى الداخل المحتل ، تماما كما أن صمود “غزة” الأسطورى وصبرها المحتسب ، لعب الدور الأعظم فى إيقاظ الضمائر ، ودفع غالب الحكومات الأوروبية إلى لغة أفضل .