من سوريا إلى لبنان: انسحاب ترامب يترك الشرق الأوسط يواجه الفوضى وحيداً

كتب: أشرف التهامي

في محاولة لتحرير الولايات المتحدة من التشابكات المكلفة في الشرق الأوسط، يستغل ترامب شركائه الإقليميين لفرض ودعم السلام في سوريا، بينما يكافح لبنان لإيجاد ضامنين أجانب حيث يواجه كلاهما (سوريا ولبنان) حالة من عدم اليقين في إعادة البناء بعد الحرب.
ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا خطابا ناريا شرح فيه بشكل حاد وواضح الأيديولوجية التي توجه استخدامه للقوات المسلحة الأمريكية والاستراتيجية المستمدة منها.
إذ في خطبة ألقاها في حفل تخرج أقيم يوم السبت الماضي لضباط من الأكاديمية العسكرية الأميركية بويست بوينت، أعلن أنه جرى إرسال العساكر الأميركيين على مدار عقود: “في حملات هدفها بناء الدول، وذلك إلى بلدان لا تريد منا أن نتدخل بها، وذلك على يد قادة لا يدركون ما معنى أقاصي البلاد، ولهذا عرّض هؤلاء القادة جنودنا لتجارب أيديولوجية عبثية، سواء في الخارج أو في الداخل، وبذلك عرّضوا القوات المسلحة لكل صنوف المشاريع الاجتماعية والقضايا السياسية، في وقت تركوا فيه حدودنا بلا مدافع عنها، واستنزفوا ترساناتنا حتى يحاربوا عن دول أخرى”، ثم أردف قائلاً: “حاربنا من أجل حدود دول أخرى، لكننا لم نحارب من أجل حدودنا”.

عقيدة ترامب الثورية

وتلك لم تكن عقيدة ثورية كشف عنها ترامب للمرة الأولى، بل إنها تجلت خلال ولايته الرئاسية الأولى، عندما أعلن في عام 2019 عن رغبته في سحب القوات الأميركية من سوريا (ذلك البلد الذي لا يوجد فيه سوى “الرمال والموت” بحسب رأيه في ذلك الحين)، كما ألمح ترامب عندما وقّع على اتفاق مع طالبان إلى فكرة سحب بعض القوات الأميركية من أفغانستان.
ومؤخراً، نفذ ترامب هذه الأيديولوجية عندما أعلن عن اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحوثيين، وبذلك جعل من الحرب في البحر الأحمر حرباً لا تخلّف أي أضرار على أميركا. لذا في حال رغبت إسرائيل أو اضطرت أي دولة أخرى لمواصلة الحرب، فإنها ستقوم بذلك بمفردها.
وبُعَيد ذلك، عرض ترامب رؤيته العالمية نفسها عندما قرر لقاء الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، ومصافحته، كما رفع معظم العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، حتى في الوقت الذي ما يزال فيه التنظيم الذي يرأسه الشرع، أي هيئة تحرير الشام، مصنفاً ضمن التنظيمات الإرهابية، ولهذا فإن الملف السوري قد يمثل مؤشراً لما يمكن أن نتوقعه مستقبلاً.
في مارس الماضي، سلمت الإدارة الأميركية للشرع قائمة تشتمل على طلبات عليه أن ينفذها حتى ترفع العقوبات عن بلده، ومن بين تلك الأمور، طالبته الإدارة الأميركية :
بمحاربة الإرهاب.
طرد المقاتلين الأجانب من سوريا.
تدمير الأسلحة الكيماوية الموجودة في سوريا.
تولي مسؤولية إدارة مخيمات الاحتجاز التي تؤوي عناصر تنظيم الدولة مع أهاليهم.
الانضمام للاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل.
ولم تشتمل تلك الشروط على إقامة نظام حكم ديمقراطي، والالتزام بحقوق الإنسان والحقوق المدنية، وترسيخ المساواة بالنسبة للنساء أو غيرها من الشروط التي وضعها ترامب ضمن خانة “التجارب الاجتماعية”.

عقوبات تُرفع وشروط لم تُحقق بعد

وفي خطابه الرسمي وتصريحاته الخاصة عن ترامب، وعد الشرع بتحقيق كل تلك الشروط، والتي تشمل الانضمام للاتفاقات الإبراهيمية “عندما تكون الظروف مناسبة”، ولكن عملياً، لم يتحقق أي من هذه الشروط حتى الآن.
ومع ذلك، وعلى الرغم من الاعتراضات الإسرائيلية، رُفعت معظم العقوبات خلال الأسبوع الفائت، وأصبح بوسع المصرف المركزي السوري أن ينضم الآن إلى نظام المقاصَّة الدولي (سويفت)، كما بوسع الشركات الأجنبية أن تبدأ استثماراتها في سوريا من دون أي خوف من العقوبات الأميركية أو الأوروبية، بما أن الاتحاد الأوروبي رفع هو الآخر العقوبات التي فرضها على سوريا.
منذ أن تولى الشرع السلطة في دمشق، لم تصل إلى سوريا سوى مساعدات اقتصادية محدودة من السعودية وقطر وتركيا، وقد عنيت تلك المساعدات بصورة أساسية في تمويل العمليات اليومية التي تنفذها الحكومة، ولكن صار بوسع الحكومة السورية اليوم أن تجمع مليارات الدولارات للبدء بعملية إعادة الإعمار ولإعادة ملايين السوريين الذين لجؤوا إلى دول أخرى أو نزحوا من بيوتهم في الداخل السوري.
ولكن حتى قبل رفع العقوبات، وقّعت حكومة الشرع عدداً من الاتفاقيات مع شركات أجنبية، إذ وقّعت:
اتفاقية لإدارة وتطوير ميناء طرطوس مع شركة موانئ دبي، أي شركة DP World، (التي دخلت في مناقصة قبل أربع سنوات من أجل إدارة ميناء حيفا بالتزامن مع بناء أحواض سفن لإسرائيل.
وقعت الحكومة السورية اتفاقاً مع شركة CMA CGM لتطوير ميناء اللاذقية، وهذه الشركة التي تعتبر ثالث أكبر شركة من نوعها على مستوى العالم، يملكها ويديرها الملياردير الفرنسي واللبناني الأصل، رودولف سعادة، وهو أحد أصدقاء ترامب المقربين. وقد تعهد سعادة أيضاً بالاستثمار بقيمة 20 مليار دولار في تطوير أسطول تجاري خاص بأميركا.

“النموذج السوري” على طريقة ترامب

بيد أن الشيء المثير للاهتمام والجديد بالنسبة “للنموذج السوري” الذي أوجده ترامب عبر رفع العقوبات مقابل تعهد فقط من قبل الشرع، هو تجييره لمسؤولية الاهتمام بحسن سلوك الرئيس السوري إلى دول أخرى في المنطقة، وهي السعودية وقطر وتركيا، وبذلك فإن ترامب حرر نفسه، ولو على المستوى النظري فحسب، من الانشغال ببلد قصيّ لا يهدد حدود أميركا.
إلا أن ذلك لم يتم إلا على المستوى النظري فحسب، لأن سوريا ما تزال “موضع شك” وموطناً لاحتكاك خطير مع إسرائيل، وبما أنها كذلك، لذا يمكن أن يظهر فيها نزاع عنيف قد يجبر الولايات المتحدة على العودة لهذه الساحة.

هل هنالك “نموذج لبناني” على طريقة ترامب؟

هذا ويسعى ترامب لإجراء ترتيبات مماثلة في لبنان الذي أصبحت لديه حكومة جديدة بقيادة الرئيس جوزيف عون، ورئيس الوزراء نواف سلام، بما أن لبنان هو الآخر بحاجة إلى مليارات الدولارات ليعيد بناءَ ما دمّرته الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وليخرج نفسه من الأزمة المالية العويصة التي غرق فيها منذ عام 2019.
ولذلك أكد المسؤولون اللبنانيون، كما أكدت القيادة السورية، أن سيطرة الدولة بشكل كامل على جميع القوات المسلحة يعتبر أحد المبادئ الأساسية بالنسبة لها، وإن تحقيق هذا الالتزام ينطوي على نزع سلاح الميليشيات الموجودة في البلد كافة، وعلى رأسها حزب الله والفصائل الفلسطينية، وهذا ما ورد أيضاً ضمن اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعت مؤخراً والتي تعتمد على قرار مجلس الأمن رقم 1701 الصادر في عام 2006.
إلا أن الحكومة اللبنانية التي أكملت أربع جولات من الانتخابات المحلية يوم السبت الماضي بعد تأخير امتد لثلاث سنوات، فحققت بذلك إنجازاً على المستوى السياسي والإداري، تواجه معضلة كبرى تشبه المعضلة التي يعاني الشرع منها، ألا وهي الطريقة التي يمكنها من خلالها حرمان الميليشيات من سلاحها غير المشروع من دون أن يتسبب ذلك بنزاع مسلح قد يتحول إلى حرب أهلية.

موقف التنظيمات الفلسطينية

بالنسبة للتنظيمات الفلسطينية، سواء في الداخل أم في مخيمات اللجوء، فإنها قد توصلت إلى اتفاق مبدئي مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يقضي بنزع سلاحها، بما أن عباس قد التقى عون وسلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري في لبنان خلال الأسبوع الماضي، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن برّي يرأس الجانب الدبلوماسي ممّا يسمّيه اللبنانيون بالثنائي الشيعي الذي يضم حركة أمل وحزب الله.
غير أن الحركة الملغومة تكمن في نزع سلاح حزب الله، بما أن أميركا تمارس ضغطاً كبيراً على عون ليبدأ على الفور بنزع سلاح هذا التنظيم في شمالي نهر الليطاني، وليس في جنوبه وحسب. لكن عون يخشى من تحرك عدواني صريح قد يمارسه حزب الله، مما قد يشعل حرباً داخل البلد، ولهذا، يفضل عون إقامة حوار مع حزب الله يفضي إلى توقيع اتفاقيات، في حين ترى واشنطن أنه لا يمكن لعون ضمان نجاح هذا الحوار في إنهاء وجود حزب الله بوصفه تنظيماً مسلحاً
ثمة اختلافات جوهرية عديدة بين الوضع السوري واللبناني تجعل من لبنان في وضع أسوأ من سوريا بكثير، وأهم تلك الاختلافات تتمثل بعدم وجود مجموعة من الدول الراعية للبنان والمستعدة لأن تضمن تنفيذه للشروط الأميركية
فقد تعهدت السعودية والإمارات بالمساهمة بإعادة بناء لبنان، وضاعفت قطر مساعداتها السنوية المخصصة للجيش اللبناني، حيث رفعتها من 60 مليون دولار إلى 120 مليون دولار، ولكن بخلاف سوريا التي أصبح رئيسها يتمتع بشرعية كاملة، لم تتعهد أي دولة عربية أمام ترامب باستعدادها لضمان قيام الحكومة اللبنانية بنزع سلاح حزب الله وتنفيذ إصلاحات اقتصادية كبرى يتعين عليها تنفيذها كشرط للحصول على المساعدات
ولهذا، وحتى يحرر ترامب نفسه من لبنان كما فعل مع سوريا وبطريقة تضمن عدم اندلاع نزاع عنيف مرة أخرى قد يهدد إسرائيل ويمكنه توريط أميركا في المنطقة من جديد، يتعين عليه أن يقرر إما تطبيق النموذج السوري عبر منح الحكومة اللبنانية الثقة ذاتها التي منحها لسوريا، والمقصود بذلك أن يدع الحكومة تقيم حواراً مع حزب الله كما تريد، أو أن يمارس قوته الكاملة عبر أدوات السحق التي يمتلكها، لكنه بذلك يخاطر بخروج الأمور عن سيطرته.

الخيار الثالث

ولكن، هنالك خيار ثالث، لأنه بوسع ترامب أن يدير ظهره للمشكلة برمتها، وأن يترك لبنان يدير شؤونه مع إسرائيل على اعتبار أن ذلك يمثل ساحة داخلية في المنطقة لا تؤثر على الولايات المتحدة
إن السياسة التي تبناها ترامب بالنسبة لسوريا وطريقته في التصرف حيال لبنان قد تعبر عن الشكل الذي ستتخذه استراتيجيته ضد إيران، إذن هل سيدرج ترامب فكرة الحرب مع إيران ضمن قائمة الحروب التي لا بد له من خوضها حتى يحمي أميركا، أم أنه سيدرج ذلك على أنه مجرد حرب أخرى ستشنها “دول أخرى” من دون أن يؤثر ذلك على الولايات المتحدة، حتى لو قررت إسرائيل أن تشن تلك الحرب؟
حتى الآن، ظل ترامب يقول إن خطه الأحمر يتمثل بقدرة إيران على امتلاك سلاح نووي، ولذلك هدد بفتح بوابات الجحيم في حال لم تلتزم إيران بخطه هذا، ولكنه تخلى عن حليفه بنيامين نتنياهو الذي طالما شعر الأخير أنه بوسعه أن يتمدد في المنطقة ويفعل كما يحلو له كما صرح مؤخراً أنه سيغير خريطة الشرق الأوسط لصالح إسرائيل و يبدو أن ترامب لم يعد بخوض حرب لصالح إسرائيل طوال حياته كلها.

طالع المزيد:

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى