محمد قدرى حلاوة يكتب: لا تصالح (2).. مجنون الورد (2)

بيان
(٤)
على مسافة نحو أربعين كيلو مترا من أجواء القاهرة الرسمية الاحتفالية.. في ” أجهور” محافظة ” القليوبية”.. كان هناك شابا يبلغ نحو الثانية والثلاثين من عمره يستعد للإتيان بحدث جلل.
” سعد إدريس حلاوة”.. شاب من أسرة ميسورة الحال.. معتدل البدن.. كث الشارب.. حليق اللحية.. يصل إلى الوحدة المحلية لقرية ” أجهور” حاملا في يده حقيبة سفر كبيرة.. أستطاع أن يخدع سكرتير الوحدة بأنه يحمل داخل الحقيبة بضاعة مستوردة من ” بور سعيد”.. فسمح له بالدخول فورا.. ألتف حوله جمع من الموظفين بالوحدة.. فقد كانت كلمة ” بور سعيد” ” السوق الحرة” ببضائعها المستوردة تثير الشغف والفضول واللهفة..( كنا نتحول حينها إلى مجتمع إستهلاكي بإمتياز مغرم بكل ما هو مستورد.. من منا ينسى عبوات السفن آب المعدنية والصابون ” أبو ريحة” والسوق التجاري والسوق الأفرنجي؟.. ومن منا ينسى الأجهزة الحديثة الواردة من الخليج؟).. وأستأذنهم – سعد – لدخول ” دورة المياه” ثم فوجئوا به أمامهم يرفع في وجوههم ” بندقية آلية”..
لا شك أنهم بوغتوا بالمفاجأة.. كثيرون منهم يعرفون ” سعد”.. ذلك الشاب، ذو النسب الطيب” الخدوم ” المواظب على، الصلاة بمسجد القرية.. ما الذي حدث إذن؟.. بدأوا يستوعبون بعض ما يحدث عندما وقف ” سعد ” في الشرفة يعلن أنه يحتجز عددا من الرهائن حتى يتم طرد السفير ” الإسرائيلي” من ” القاهرة”.. مهددا في حالة رفض طلبه بتصفية الرهائن وقتل نفسه أيضا.. سرعان ما أخرج جهاز ” كاسيت” من حقيبته ووضعه أمام” ميكرفون” الوحدة.. وأنطلق صوت آيات ” القرآن الكريم” وأغاني ” عبد الحليم” الوطنية وخطب ” جمال عبد الناصر” تدوي في القرية.
بدأ ” سعد ” يخرج أسلحة أخرى من الحقيبة.. ” البسكويت”.. أصابع من ” الكفتة” المقلية.. ثمار” البرتقال”.. ” كيس” من” السكر”.. وورقة من ” الشاي”.. ولم ينس “السبرتاية”.. بدأ يأكل مع الرهائن !!.. بدت أغراض شخص ذاهبا إلى نزهة أو رحلة.
كان من الواضح أنه شابا رومانسيا حالما بعض الشئ.. طريقة التخطيط وأسلوب التنفيذ يشيان بذلك على الفور.. حتى الرهائن لاحظوا ذلك.. كانوا متيقنين أنه لن يصيبهم بأذى.. كانت كل مشكلته أنه آمن بقضاياه الوطنية والفومية.. أخلص لها.. لم تلتبس في ذهنه المفاهيم أو تتماهي.. من هو ” العدو” من ” الأخ” و ” الصديق”؟.. حددهم بدقة.. لم يكن يستطع خداع عقله ووجدانه.. هو ” فلاح” من تلك الأرض الطيبة.. يعلم أين تتمدد وتترسخ الجذور.. كيف ينمو الساق ويشتد.. متى تطرح الثمار وتزهو.. وأين ينبت النيت الشيطاني وكيف يجتث.
هو بسيط المنشأ والملبس والهيئة والثقافة – حاصل على شهادة الثانوية العامة -.. ليس مثقفا متحذلقا يبدل وجهته ويغير قبلته مستخدما ” المصطلحات” الفخمة الجزلة عن ” ضرورات المرحلة” وتحولات التاريخ وحتمياته.. لم ينتم لحزب أو جماعة كي يساوم ويصالح محققا مكاسب سياسية وربما مادية.. ليس كاتبا مستكتبا بلسان الحاكم وأمره وشطحات خياله.. هو نحن في الواقع.. نحن العابرون بلا صوت ولا ملامح ولا نخلف أثرا.
(5)
أهتزت العاصمة على وقع المفاجأة.. من هذا “المجنون” الذي فعل ذلك؟.. الإتهام بالجنون والقذف به يعد نوعا من الإقصاء المريح للذهن وربما للضمير أيضا.. المخالف للسائد والمألوف .. السابح ضد التيار.. الصوت النشاز وسط جوقة زاعقة.. الناطق في أزمنة الخرس.. ” الشواف” بين الشاخصين بالأبصار.. الفاعل ضد الفعل المفروض.. الرقم الصحيح وسط الأصفار.. من يحمل حقيبته لحتفه وليس لبلاد النفط والأحلام.. بالتأكيد “مجنون”.
كانت ” أجهور” على موعد مع قدوم وزير الداخلية ” النبوي إسماعيل” بذاته مصطحبا كوكبة من قيادات الوزارة .. ربما لم تحظ القرية بزيارة أي مسئوول – كبيرا كان أم صغيرا – قبل اليوم أو بعده.. لكنهم جميعا أتوا كي يعاينوا ذلك ” المجنون” الذي أفسد يومهم وقض مضاجعهم.. وربما سبب للوزير بعض الإحراج واللغة العنيفة من “الرئيس ” ( ٥ ) . وهو الذي طالما ردد على مسامعه ” أن الأمن تمام.. كله تحت السيطرة يا ريس”.. و بالتأكيد فقد رد السهام المصوبة إليه قذائف في وجوه مدير الأمن وكبار الضباط بالمحافظة وبالتبعية” العمدة”.
لم يستجب ” سعد” لمناشدة والدته بتسليم نفسه.. رد على زوج خالته أمين ” الحزب الوطني” بمحافظة ” الدقهلية” الذي ناشده لذات السبب: ” أسكت أنت.. أنت من حزب البصمجية”.. عمه ” عمدة” القرية.. أول من آبلغ المركز عن الحادث.. كان يخلي مسئوليته.. ويقوم بواجبه البيروقراطي أيضا.. أحد أشقاءه شهد بأنه مجنون.. “سعد” الآن محاصر.. الجميع يعلم مصيره بعد ساعات.. إذن ليتنصلوا منه ويقبضوا على ما في أيديهم بقوة – من منصب أو مكانة وظيفية أو منزلة إجتماعية – هل يوجد ما يبرر مشاركته في دفع ثمن فعله الطائش؟.
أُتخذ القرار بإنهاء العملية وتصفية ” سعد” مع خيوط الفجر الأولى.. أنطلق وابل من الرصاص صوبه بعد تحديد مكانه.. وبرغم صراخ أحد “الرهائن” بأن ” سعد” قد سقط جريحا بعد أن فجرت إحدى الرصاصات عينه.. إلا أن القوات بعد اقتحام مبنى” الوحدة المحلية” استمرت في إطلاق الرصاص ولم تتوقف سوي بعد أن أطمأنوا أنه الآن يرقد قتيلا.. جثة هامدة.
كتب سعد ” على الحائط بدماء عينه “: ” أطردوا سفير إسرائيل من مصر.. وتحيا مصر عربية.. وتحيا مصر حرة “..” سعد إدريس حلاوة في ٢٦ فبراير ١٩٨٠ “.
عقله المسكون بالجنون قد صمت للأبد.. يمكن للسادة المسؤولين أن يذهبوا اللحظة إلى منازلهم ليحصلوا على قسط من الراحة.. راجين من أهل المنزل الهدوء.. بعد أن قضوا ليلة ليلاء أفسدها عليهم هذا المسجي المصاب باللوثة.. بعد أن حموا الوطن من شروره.. وكانت المشكلة الوحيدة هي التوتر الذي يعقب الذهن المستنفر والسهر ولعل أغاني “عبد الحليم” وصوت ” عبد الناصر” قد زادا من توترهم.. هل زارهم طيف عباراته المكتوبة على الحائط بلونها القاني وأيقظتهم فزعا؟.. ربما.
(6)
في الثامن والعشرين من ” فبراير / شباط”.. نشرت جريدة” الأهرام” ” المصرية” خبرا صغيرا مقتضبا تحت عنوان : ” إلقاء القبض على معتوه أحتجز مواطنين في أجهور تحت تهديد السلاح” وجاء في متن الخبر ما يلي ” تمكنت قوات الأمن والشرطة من إنقاذ مواطنين من موظفى المجلس القروي.. في أجهور بمركز طوخ بالقليوبية.. أحتجزهم شاب مختل القوي العقلية تحت التهديد المسلح بإستعمال مدفع رشاش.. وأعلن الشاب أنه سيقتلهم ما لم تستجيب السلطات لمطالبه التي تراوحت بين طلب بتمكينه من الحصول على أدوات خاصة بزراعة أرضه.. وإجبار أسرته على التنازل عن بعض الأطيان الزراعية.. وإبعاد السفير الإسرائيلي من القاهرة.. وقد حاولت أجهزة الأمن والشرطة إقناع الشاب المجنون من (كذا) إطلاق سراح المحتجزين إلا أنه رفض الإستجابة إلى ذلك منذ يوم أمس الأول.. وظل يذيع الأغاني والأناشيد مستعملا مكبرا للصوت.. وعندما هدد الشاب بقتل المحتجزين مالم تستجب الحكومة لمطالبه.. تدخلت قوات الشرطة مما أدى إلى تبادل إطلاق الرصاص.. وأصيب الجاني وأمكن إلقاء القبض عليه.. وتولت النيابة التحقيق “.
يعد الخبر نموذجا مثاليا في الكذب والتضليل.. الخبر أمعن في إثبات” العته “و” الجنون ” عندما أبرز مطالب” سعد ” المزعومة للإفراج عن الرهائن.. ولعله من حق القارئ العادي أن يتسائل ما علاقة أدوات الزراعة.. بالأطيان الزراعية.. بسفير” إسرائيل “؟.. أليست تلك المطالب – التي لم تحدث أبدا – وإختلاطها وتباعد الرابط بينها دليل تشوش وعته وجنون؟!.
السرد لا يقول أنه قتل ” رهينة” مثلا أو بادر بإطلاق النار على قوات الشرطة.. لكنه يخبرنا أنه ظل يذيع الأغاني والأناشيد.. ويبدو أن ذلك الأمر كان مستفزا لأعصاب القوات المحاصرة والمتأهبة للتدخل فحدث ما حدث.
إلا أن التضليل يبلغ مداه حين يقول الخبر أنه تم القبض عليه ويحقق معه الآن أمام النيابة.. ” سعد” أُجهز عليه فور اقتحام القوات.. ولعل المصريين لم يعلموا حقيقة الخبر حينها سوي من إذاعة ” مصر الحرة” التي كانت تبث من سوريا (تأمل منذ متى نستقي الحقيقة في الداخل من قنوات الخارج!) .. لكن الجميع قد نسي ” سعد المجنون” بعد حين يسير.. وربما كان الكثيرين منا لم يسمعوا عنه حينها أصلا..
ذات اليوم.. أنتحي بي أستاذ ” أسماعيل ” مدرس ” التربية الزراعية” جانبا ووضع يده على كتفي يسألني هامسا : ” سعد إدريس حلاوة ده يبقى قريبك”.. وحين نفيت الأمر وقلت أن لقب العائلة ينتشر في محافظات كثيرة بل وبعض الدول العربية أيضا.. واصل حديثه قائلا بتأثر حقيقي ” قريبك ده بطل.. عمل اللي نفسنا كلنا نعمله.. إبقى أقرا له الفاتحة دايما يا إبني”.. ورفع يديه قارئا الآيات ثم مسح بها على وجهه وصدره وابتسم قائلا: ” يالا بقى روح على فصلك”.
تحت عنوان: ” مجنون مصر الجميل” كتب الشاعر الراحل “نزار قباني ” يقول : ” سعد حلاوة كان الأصدق والأصفي والأنقي.. فهو لم يقتنع بأسلوب المقاومة العربية.. وبيانات” جبهة الصمود والتصدي” ( ٦ ).. فقرر أن يتصدي على طريقته الخاصة ويخترع مقاومته.. إذا كان سعد حلاوة مجنونا فيجب أن نستحي من عقولنا.. وإذا كان متخلفا عقليا فيجب أن نشك في ذكائنا “.
.. ويستطرد” نزار قائلا: ” سعد إدريس حلاوة هو مجنون مصر الجميل.. وأجمل ما به أنه أطلق الرصاص على العقل العربي الذي يقف في شرفة اللامبالاة في يوم ٢٦ فبراير ١٩٨٠.. ويتفرج على موكب السفير”.
وينبهنا ” قباني”: “كان لابد من ولادة مجنون يطلق الرصاص على اللاعبين والمتفرجين جميعا في مسرح السياسة العربية.. ومن هنا أهمية سعد حلاوة.. فقد أرسله القدر ليقول جملة واحدة فقط ويموت بعدها.. هذه ليست مصر.. هذه ليست مصر.. والقصة انتهت كما تنتهي كل قصص المجانين.. الذين يفكرون أكثر من اللازم.. ويعذيهم ضميرهم أكثر من اللازم.. أطلقوا النار على مجنون الورد حتى لا ينقل جنونه إلى الآخرين “..
وكان الأمر يبدو كذلك تماما بالفعل.. ” سعد إدريس حلاوة ” كان نحن.. نحن جميعا.. ” جمجمة مصرية كانت بحجم الكبرياء، وحجم الكرة الأرضية.. إنه خنجر سليمان الحلبي المسافر في رئتي الجنرال كليبر”..
” هو كلام مصر الممنوعة من الكلام..
وصحافة مصر التي لا تصدر..
وكتّاب مصر الذين لا يكتبون..
وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون..
ودموع مصر الممنوعة من الإنحدار..
وأحزانها الممنوعة من الإنفجار…”.
ربما كانت صرخة رفض” سعد إدريس حلاوة ” “مجنون الورد ” هي الصرخة الأولى.. لكنها لم تكن الأخيرة على أية حال.. كان المستقبل يحمل في طياته صرخات أخرى مدوية و”مجانين ” آخرين يجهرون بالرفض.
” واحذروا النسيان .. فالنسيان موت ..
كل ما يُذكر يحيا ..
كل ما يُنسى يموت ..
التحيات لكم ..
ما البطولة ؟..
أهي أن تفعل ما ليس بوسعك ؟..
تلك حيلة !..
أهي أن تفعل ما يُعجز غيرك ؟..
تلك حرفة !..
أهي أن تفعل ما يُحسب قبلك..
في عداد المستحيل ؟..
تلك صدفة !.
البطولة..
هي أن تذكر شعبك ..
هي أن تذكر أرضك ..
ثم أن تنكر نفسك..
حين تفعل أي شيء ! “..
” نجيب سرور “..
………………………………………………………………………………………………………………
( الهوامش)
( ٥ ) يذكر لنا الكاتب الراحل” شفيق أحمد علي ” في كتابه الرائع عن ” سعد إدريس حلاوة”” من الملف السري للسادات والتطبيع – عملية إغتيال سعد حلاوة ” والذي يكاد أن يكون الكتاب الوحيد عن” سعد حلاوة” أن وزير الداخلية الأسبق” النبوي إسماعيل ” عندما هاتف” السادات” بتفصيلات ما حدث” بأجهور ” .. وحين روي له أنه يقوم بإذاعة خطب” جمال عبد الناصر ” قال له ” السادات “” هوه مش بيقول إنه هيموّت نفسه.. يبقى خلاص إبعتوه لعبد الناصر بتاعه “.. كان القضاء على” سعد إدريس حلاوة ” حتما مقضيا.. كي لا يقلده آخرون.. وحتى يكون عبرة لكل من يعلن رفضه.
( ٦ ) ” جبهة الصمود والتصدي “.. هي حلف من دول” سوريا “.. ” العراق”.” ليبيا “..” الجزائر “..” جمهورية اليمن الشعبية “.. و” منظمة التحرير الفلسطينية ” والتي نشأت بعد زيارة الرئيس الراحل” أنور السادات” للقدس ” نوفمبر / تشرين ثان” عام ١٩٧٧.. وتبنت دول الجبهة بعد ذلك نقل مقر” جامعة الدول العربية” من ” القاهرة ” ومقاطعة” مصر “.