حزب الله عند مفترق طرق.. في ذكرى انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان مايو/ أيار 2000

كتب: أشرف التهامي

شهد يوم 24 مايو/أيار 2000 ذروة مجد حزب الله. لحظةٌ نجح فيها ، ولأول مرة في العالم العربي، في دفع إسرائيل إلى الانسحاب أحادي الجانب من الأراضي العربية (المنطقة الأمنية في جنوب لبنان) دون اتفاق سياسي.
لم يُعزز هذا النصر مكانته في لبنان وفي المجتمع الشيعي فحسب، بل مكّنه أيضًا من استكمال سيطرته على لبنان ورسم واقع جديد فيه، يكون فيه هو صاحب السيادة الحقيقية، بينما تصبح الحكومة والجيش اللبنانيان لاعبين ثانويين. يبدو أن خطاب نصر الله “الشبكة العنكبوتية”، الذي ألقاه في بنت جبيل في 26 مايو/أيار 2000، بعد يومين من الانسحاب، عبّر عن شعوره بالرضا والنشوة التي انتابته آنذاك، بعد أن حقق حزب الله أهم إنجاز في تاريخه، فقد، شكّل انتصار حزب الله عام 2000 نقطة تحول تاريخية.
من أجل”المقاومة”، استفاد حزب الله من آليات الدولة والمجتمع اللبناني، الذي منحه حرية كاملة في التصرف. وكان أبرز تجلٍّ لذلك اختطاف الجنديين الإسرائيليين غولدفاسر وريغيف في يوليو/تموز 2006، وهي مبادرة عسكرية فاجأت المجتمع اللبناني و المجتمع الدولي كله تمامًا.
تصرّف نصر الله بالقوة وشعور بالتفوق على إسرائيل، مؤكداً أنه فهم نقاط ضعفها بعد فكّ شيفرة الجينوم الإسرائيلي. لكن في الواقع، برغم الصواب في حساباته، اختارت إسرائيل الردّ بحرب شاملة (حرب لبنان الثانية).

كيف أصبح حزب الله بعد حرب لبنان الثانية؟

بعد إخفاقات حرب لبنان الثانية، سعى الطرفان إلى التعلّم منها والاستعداد للحملة التالية. بدأ حزب الله، بدعم من فيلق القدس الإيراني، عملية بناء قوة فعّالة، شملت :
مشروع الصواريخ الدقيقة.
إنشاء قوة الرضوان المُخصّصة لـ”غزو الجليل ” .
تعزيزًا واسعًا لأنظمة لوجستيته وقتاله.
فقد حوّل حزب الله نفسه إلى جيش متقدم، مُجهّز بأسلحة حديثة وقدرات متنوعة.

كيف أصبحت إسرائيل بعد حرب لبنان الثانية؟

بعد حرب لبنان الثانية، حدث تحوّل هادئ في إسرائيل ولكنه قوي: تحسّن استخباراتي كبير وتكثيف قدرات الردّ الدقيق، بحسب الخبراء الإسرائيليين.
تجلّى كل هذا بقوة كبيرة خلال الحرب التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخاصةً منذ أواخر يوليو/تموز 2024، عندما تمّ القضاء على “رئيس أركان” حزب الله فؤاد شكر، وبلغت ذروتها في سبتمبر/أيلول 2024 مع الهجوم المفاجئ – “هجوم البيجر” – الذي نجحت إسرائيل من خلاله في ضرب عميق لمنظومة القيادة والسيطرة لحزب الله، ومن خلال سلسلة من التصفيات التي نفذتها خلال الحرب، نجحت في القضاء على قيادة المنظمة:
السيد حسن نصر الله، الأمين العام للحزب.
هاشم صفي الدين، خليفة نصر الله .
قائد العمليات إبراهيم عقيل.
قائد الجبهة الجنوبية علي كركي.
محمد جعفر قصير – قائد الوحدة 4400 (المسؤولة عن نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان)، وغيرهم الكثير.
أدى الجمع بين المعلومات الاستخباراتية الدقيقة والوسائل الفتاكة إلى تغيير موازين القوى لصالح أسرائيل.
ووفقًا لمراكز البحث الاستخباري الإسرائيلية، نجحت إسرائيل في استهداف 176 من كبار قادة حزب الله، من قيادات عسكرية رفيعة ومتوسطة المستوى، ومراكز معلومات، وغيرها.

منذ وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، يخضع حزب الله لمراجعة داخلية معمقة.
ويُجري الحزب اللبناني تحقيقًا في كيفية تمكن إسرائيل من تحقيق هذه النجاحات الهائلة، وكيف اخترقت أنظمته بعمق. حيث ألقى القبض على شبكات تجسس تعمل لصالح إسرائيل. لكن الحقيقة البسيطة هي أن حزب الله قد تضرر بشدة – جسديًا واقتصاديًا ولوجستياً ومعرفيًا – ويحتاج إلى إعادة تأهيل طويلة وشاملة لقوته العسكرية و الاستخباراتية والسياسية من وجهة نظر المراقبين ولا سيما الإسرائيليين.
وفي الوقت نفسه، عليه أيضًا أن يتعامل مع تحدٍّ داخلي صعب: إعادة ترميم و تأكيد الثقة داخل المجتمع الشيعي، الذي تكبد خسائر فادحة في الحرب. فالمجتمع، الذي دعمه لسنوات انطلاقًا من شعوره بالرسالة ومقاومته لإسرائيل، يُظهر علامات التعب.
يُدرك الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، الصعوبة التي يواجهها الحزب، ولذلك أشار مجددًا في خطابه بمناسبة ذكرى الانسحاب في 25 مايو/أيار 2025، إلى أن المنظمة لن تُجر إلى مواجهة جديدة مع إسرائيل، وأنها ستترك زمام المبادرة في التعامل معها للحكومة اللبنانية.
ولكن ليس كل شيء سيئًا بالنسبة لحزب الله: ففي الانتخابات البلدية، نجح الحزب في الحفاظ على نفوذه في جنوب لبنان والبقاع وبيروت.
يُثبت ذلك أن نفوذه في المجالين المدني والبلدي لا يزال كبيرًا. ولا تزال بنيته التحتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية تمنحه ميزةً جوهريةً لم تتآكل.
ومع ذلك، يواجه حزب الله تحديًا استراتيجيًا مزدوجًا:
خارجيًا – إعادة بناء الردع والقوة في مواجهة إسرائيل.
داخليًا – الحفاظ على الهيمنة داخل لبنان.
تُبرز مبادرات كبار المسؤولين في الدولة اللبنانية، بقيادة الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، لدفع عملية نزع سلاح حزب الله، سعي الدولة للتخلص من هيمنة حزب الله بنزع سلاح الحزب ، لكن هناك صعوبات جمة ومحاولات يائسة لإجبار حزب الله على التخلي عن سلاحه، الذي يُشكل عماد قوته ونفوذه.

الرؤية الإسرائيلية اكسر هيمنة حزب الله

يرى المراقبون و الخبراء الإسرائيليون لتحدي قوة حزب الله:” لا بد من استراتيجية أمريكية شاملة تُساعد الدولة اللبنانية على تقريب الطائفة الشيعية من خلال آلية واسعة تُقدم لها الرعاية، وتهدف إلى قطع اعتمادها على إيران وحزب الله، وبالتالي تآكل قاعدته الاجتماعية. إلى جانب ذلك، يجب على الولايات المتحدة تعزيز الجيش اللبناني من خلال إزالة نفوذ حزب الله عليه، لا سيما من خلال الضباط الشيعة في صفوفه الذين يشغلون مناصب عسكرية”.
و على الرغم من رغبة إدارة ترامب في تحقيق مكاسب فورية ضد حزب الله في لبنان، فمن الصعب توقع أن تتمكن الولايات المتحدة من جني فوائد فورية في البلاد في مواجهة استراتيجية إيرانية شاملة تم تنفيذها في لبنان منذ أوائل الثمانينيات ، لذلك، يجب على إدارة ترامب تبني منظور طويل المدى يهدف إلى قيادة عمليات عميقة لا يمكن إكمالها على عجل، كما يرى الخبراء الإسرائيليون.
كما يرى المراقبون الإسرائيليون أنه يجب على إدارة ترامب تشجيع الدولة اللبنانية على استعادة السيادة على حساب حزب الله. في ضوء ضعف حزب الله، كما تشير دلائل مهمة أشارت إليها مراكز الأبحاث الإسرائيلية إلى تقوية الدولة اللبنانية منذ وقف إطلاق النار. ويشمل ذلك :
انتخاب جوزيف عون (يناير 2025) رئيسًا (بعد عامين بدون رئيس، ضغط خلالهما حزب الله من أجل انتخاب سليمان فرنجية)، الذي أعلن بالفعل عند تنصيبه أن الدولة اللبنانية وحدها هي التي ستعمل على إزالة “الاحتلال الإسرائيلي.
انتخاب نواف سلام رئيسًا للوزراء.
استدعاء السفير الإيراني في لبنان، مجتبى أماني، (أبريل/نيسان 2025) لتوبيخ تاريخي بعد انتقاده العلني للمبادرة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله، واصفًا إياها بـ”المؤامرة الواضحة” ومحذرًا من “الوقوع في فخ العدو”.
تعليق الرحلات الجوية من إيران إلى لبنان في يناير/كانون الثاني 2025 – ردًا على تهديد إسرائيل باستهداف مطار بيروت لاستخدامه من قبل طهران للنقل الأسلحة إلى حزب الله – مما مهد الطريق لمبادرة أوسع نطاقًا من جانب الدولة اللبنانية لفرض سيطرتها على المطار. وبحسب ما ورد، في أوائل مايو/أيار، تضاءل وجود حزب الله الهام في هذا الموقع الاستراتيجي بعد فصل العشرات من موظفي المطار المشتبه في صلتهم به، وتشديد إجراءات التفتيش.
هذه العلامات المبكرة لاستعادة الدولة اللبنانية سيادتها وتآكل نفوذ حزب الله مهمة وواعدة، لكنها لا تزال بعيدة عن إحداث تحول تاريخي في لبنان من وجهة النظر الإسرائيلية.
و يقول مركز ألما البحثي الإسرائيلي برغم إعلان رئيس الوزراء سلام مؤخرًا (26 مايو/أيار) انتهاء عصر تصدير الثورة الإيرانية إلى لبنان، فإنه على أهميته، لا يزال غير كافٍ لإحداث تغيير حقيقي. فحزب الله، الذي يبدو أنه يقوده الآن اثنان من قادته الباقين على قيد الحياة، محمد حيدر وهيثم علي طباطبائي (إلى جانب الأمين العام نعيم قاسم)، يمر الآن بأهم أزمة في تاريخه .

ومع ذلك، ووفقًا لتقييم مركز ألما،” لا يزال حزب الله يمتلك حوالي 20 ألف صاروخ من مختلف الأنواع، ويساعده في ذلك أفراد من فيلق القدس في لبنان لإعادة بناء قوته وجاهزيته. ونظرًا لصعوبة تهريب الأسلحة من إيران، بما في ذلك محاولات النظام الجديد الفاشلة عبر سوريا، يسعى الحزب جاهدًا لإعادة بناء ترسانته الصاروخية من خلال الإنتاج المحلي. ومع ذلك، وفي ظل الهجمات الإسرائيلية المستمرة، يسعى الحزب أيضًا إلى إنشاء طريق تهريب بحري بالتعاون مع إيران. علاوة على ذلك، أدرك حزب الله وجود فجوة بين قدراته العسكرية وقدرته على استخدامها بالكامل، بسبب معارضة الدولة اللبنانية. ومع ذلك، فإنه يسعى جاهدًا لإعادة بناء نفسه وتعزيزه من أجل استعادة موطئ قدمه؟.

في الختام

بعد 25 عامًا من انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان، ما زال حزب الله، الذي يمر الآن بأعمق أزمة في تاريخه، قادراً على إعادة توازنه وترميم بنيته العسكرية.
على حزب الله أن يتكيف مع غياب نصر الله، الذي لعب دورًا مهيمنًا في الحزب منذ التسعينيات، وأن يُنشئ جيلًا جديدًا من القادة (بمن فيهم ضباط كبار على مستوى قيادة الوحدات والمناطق) ليحلوا محل زملائهم الذين تم استبعادهم.
يُذكر التاريخ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان كإنجاز نادر لحزب الله ، لكن الحاضر والمستقبل يُواجهانه بتحديات جسيمة في ظل ما تمر به المنطقة من تحديات ومؤامرات صهيوأمريكية و تخبط عربي مهين.

طالع المزيد:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى