ميخائيل عوض يكتب: ماذا يجري في سورية؟.. تفكيك التنف وتسمين الجولاني وتوطين الغرباء

بيان
(1)
تبقى سورية محط الاهتمامات فهي نقطة توازن الاستراتيجيات الكونية وقلب العروبة النابض.
الممر الإلزامي للطريق والحزام الصيني، ومنصة عودة روسياً لاعباً دولياً أول، وممر أنابيب النفط والغاز الأقصر إلى البحر المتوسط وأوروبا.
فيها أقدم المدن والعواصم وأول الحضارات والإمبراطوريات العالمية.
حيوية في بنيتها، ملتهبة بقضيتها الوطنية والقومية، مبدعة بتنوعها وبطبائعها وخاصياتها.
قليلاً ما تهدأ لتلتقط الأنفاس، وعندما تنهض تتغير وتغير عربها وإقليمهم.
(2)
حدثها الجاري مازال انتقالياً، ولم تترسخ عناصر الاستقرار ولا اكتملت مرحلتها الانتقالية.
تُدار بـ”الريموت”، وتُمول دولتها بالقطارة من هبات سعودية قطرية.
الجميع يراهن ويحاول الاستثمار بتحولاتها طمعاً بموقعها ومكانتها.
إدارتها هشة تقطع الوعود بلا قدرة على تنفيذها، وتدير توازناتها المتوترة بأعلى المستويات بالوعود والتسويف.
تبدو مستقرة على السطح وتحته تغلي، وتجري عمليات الخطف والتصفيات والفرز الطائفي والتهجير والتجويع بلا رادع أو ضابط.
(3)
أزماتها شتى كثيرة وعميقة وجوهرية ليس من اليسير الإحاطة بها.
جغرافيتها تحت الاحتلالات الإسرائيلي والتركي والأطلسي، ومجتمعها مفكك ولكل منطقة أو تَجمع مسلحين وشبه إدارة.
الاقتصاد معدوم والبنية التحتية تزداد تآكلاً، والناس في شبه مجاعة بلا أمل أو وعد مستقبلي.
المسألة الكردية حاضرة بقوة والحل بـ”التتريك” يتعثر ولن يمر برغم وجود أكثر من ٢٠ ألفاً من الجيش التركي محتلين، والخبراء الأتراك في كل مكان وفي كل الدوائر الحكومية والوزارات ومفاصل الحياة الاقتصادية والأمنية!
(4)
إسرائيل تضرب حيث تشاء، والجولان يتأهب ليتحول إلى مسرح اشتباك، وجبهة تربك إسرائيل كما الإدارة المتعثرة والقاصرة إلا عن الاستقبالات للضيوف وزيارات للجولاني حتى اللحظة لم تزبد ولم تغني.
وتباعاً يحول القصر إلى مسجد! والسؤال لماذا لم يصلي بالجامع الأموي ما دام واثقاً من دولته وأمنه ومن ولاء السوريين له؟
المشاريع لمستقبلها كثيرة؛ من التفكيك إلى التقسيم وتقاسم النفوذ والولاءات للدول الطامحة وما أكثرهم، ويعود مشروع فرنسا منذ عشرينات القرن المنصرم لإقامة أقاليم شِبه مستقلة بعدد الطوائف والاثنيات الكبرى وقد سقط يومها فليس له أفق اليوم.
(5)
الأهم أنَّ ترمب وضع وعده موضع التنفيذ، وبدأ تفكيك القواعد وسحب الجيش الأمريكي منها. والأكثر أهمية تفكيك قاعدة “التنف” المُنشأة على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، وتفكيك “مخيم الرُكبان”.
قاعدة “التنف” ذات أهمية فوق استراتيجية للوجود الأمريكي والمخططات التي كانت، وقد جرى تأمينها وتعزيزها على نحو مختلف، فالموقع حاكم ويؤثر في ثلاث دول ويمتد إلى إسرائيل والسعودية.
حالة ارتباك وارتهاب أصابت الجميع -خاصة الأردن- فالتنف أُقيمت لتأمينه، والقواعد الأمريكية الأطلسية فيه، وقد نقلت لها معدات القواعد التي أُخليت من قطر والخليج، وهي رابط حيوي بين قاعدة “إنجرليك” وإسرائيل والقواعد في السعودية، وتؤمن قواعد العراق وشماله.
الفراغ الأمريكي سيفرض تحديات جديدة نوعية لم تكن في الحساب، وملؤه متعذر، وليس من قوة أو دولة قادرة.
(6)
الرؤية التي أطلقها “توم باراك” سفير أمريكا في تركيا والممثل لترمب لإدارة سورية، تفصح عن رؤيةٍ واستراتيجيات أمريكية مختلفة جوهرياً عمَّا كان. فقد اتهم سايكس بيكو والاستعمار الغربي بتقسيم سورية والمنطقة، ودعا إلى بدائل باعتبار ما كان كارثياً وتسبب بمئة سنة من المأساة.
من سيعيد توحيد المُقسَّم وتكبير الجغرافية؟
بأيِّ أدوات؟
لأية مصالح؟ وبأي نُظم؟
(7)
إطلاق الإشارات الأولى عما تخطط له إدارة ترمب لسورية لابد من عطفه على تصاعد الاشتباك مع نتنياهو ولوبيات إسرائيل في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الامريكية، وتصاعد أزمات إسرائيل واقتراب موعد انهيار حكومة نتنياهو، وتصاعد احتمالات تمرد الجيش ووحداته القتالية في غزة بفعل الإخفاقات. والخسائر ونقص المعدات والعديد تُنبئ بتوفر حظوظ لاحتمالات انفجار النظام العام في إسرائيل في ظل العجز والأزمات، واحتراب قبائلها وتسليح المستوطنين في الضفة. فالفوضى تقترب وقد تصيب الأردن فهو كفلسطين ولبنان كيانات نتجت بمقص سايكس بيكو وفِعل المستعمرين بحسب وصف باراك.
(8)
اللافت أن تمويل قطر والسعودية للدولة السورية لثلاثة أشهر -أي مؤقت- كذلك إجراءات تجميد العقوبات لستة أشهر.
ما يؤشر إلى أن الممولين يترقبون أو يحضرون لشيءٍ، وما الجولاني وإدارته إلا انتقالية، على عكس الإجازة له بتجنيس المقاتلين الأجانب لتصفية منظماتهم وتشكيلاتهم التي أطلقها وأمنَّها ووظَّفها لوبي العولمة عبر “توطينهم” في سوريا. والتسريبات تتحدث عن ضباط وخبراء أمريكيين يتولون الإشراف على المؤسسة الأمنية والعسكرية الجاري بِناؤها ببطءٍ شديد، بل أقرب لتعايش فصائل المسلحين تحت مسمى “الجيش والأمن العام” مؤقتاً أيضاً.
(9)
الإجراءات التي اعتمدها الأردن والكويت لحل وشطب تنظيمات الإخوان المسلمين تترافق مع مناقشة قانون في الكونغرس لتصنيف الجماعة الدولية كتنظيم إرهابي، ومع حملة في النخب والإعلام الأوروبي عن خطرهم في تهديد مستقبل أوروبا وتغلغلهم في المؤسسات والمجتمع.
شطب الإخوان المسلمين، ومصادرة مؤسساتهم وأموالهم مَهمة يستعجلها ترمب لتُنجز قبل الانتخابات النصفية الأمريكية، ما سيؤدي إلى قطيعة مع إردوغان وتقليص قدرات قطر، وهذه سيكون لها أثر كبير في إعادة هيكلة سورية والشرق فالعرب والإقليم.
(10)
في السياق لابد من ملاحظة تحولاتٍ نوعية في موقف السلطة اللبنانية بعد عزل “أورتاغوس” والانفتاح على العراق وإيران والتفاهمات الجارية بين رئيس الجمهورية والثنائي الشيعي، وصلابة موقف الجيش الأخير من الاعتداءات الإسرائيلية.
متقاطعةً من أرجحية تصفية اليونيفيل لوقف تمويلها من أمريكا، وتجسيداً لاستراتيجية ترمب لتدمير العولمة ومؤسساتها، بما في ذلك الانسحاب من الأمم المتحدة كما انسحب من منظمة الصحة العالمية وقمة المناخ وأوقف التمويل للـ “NGOs”، وحلَّ منظمات ومؤسسات معنية بما فيها وكالة التنمية الدولية (USAID ) التي كانت تنفق٤٠% من المساعدات الخارجية الأمريكية.
(11)
يبدو من المبكر كثيراً افتراض أنَّ سورية استقرت، وأنَّ مستقبلها القريب بات واضحاً. وسيخطئ إلى حد الانتحار من يبني سياساته ويغير ولاءاته بوهم أن سورية قُسِمت أو أنها أصبحت بقبضة “التتريك” أو “الأسرلة”.
زمن سورية وأيامها القادمة واعدةٌ ومتخمة بالمفاجآت.