خالد سالم يكتب: احذروا مستر ترامب.. الدبلوماسية المزدوجة في عصر الفوضى الخلاقة

بيان
مقدمة: نحو فهم استراتيجية الوجهين
في عالم السياسة الدولية المعاصرة، تبرز شخصية دونالد ترامب كنموذج فريد للقائد الذي يمزج بين التناقض الظاهري والحسابات الاستراتيجية المعقدة.
ما شهدناه مؤخراً من تصريحاته حول الضربات الإسرائيلية ضد إيران ليس مجرد موقف سياسي عابر، بل يكشف عن نمط استراتيجي متجذر في فلسفة “الفوضى الخلاقة” التي تهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط.
التناقض كاستراتيجية: تشريح الموقف الترامبي
بعد أشهر من حثّ إسرائيل على عدم ضرب إيران أثناء سعيه لإبرام اتفاق نووي، صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مقابلة هاتفية مع وكالة “رويترز”، بأنه وفريقه كانوا على علم مسبق بالهجمات، مؤكداً في الوقت ذاته أنه لا يزال يرى فرصة للتوصل إلى اتفاق مع طهران.
هذا التناقض الظاهري بين الردع والتشجيع، بين الدبلوماسية والعسكرة، يعكس استراتيجية محسوبة تهدف إلى تحقيق عدة أهداف متزامنة:
*أولاً: إدارة التوقعات الإقليمية* – من خلال إظهار القدرة على التحكم في المعادلة العسكرية مع الحفاظ على قنوات الحوار مفتوحة، يرسل ترامب رسائل متضاربة تبقي جميع الأطراف في حالة ترقب وحذر.
*ثانياً: الضغط التفاوضي المركب* – استخدام العصا والجزرة بطريقة متداخلة، حيث يمنح إسرائيل الضوء الأخضر للعمل العسكري مع الإبقاء على خيار التفاوض مع إيران كورقة ضغط إضافية.
تحليل التصريحات: ما وراء الكلمات
عندما قال ترامب: “كنا نعرف كل شيء، وحاولت جاهداً إنقاذ إيران من الإذلال والموت”، فإنه يكشف عن عدة طبقات من المعاني الاستراتيجية:
الطبقة الأولى: التحكم في السرد
إعلان المعرفة المسبقة بالهجمات يضع الولايات المتحدة في موقع المتحكم في الأحداث وليس مجرد المتفرج، مما يعزز من قوتها التفاوضية مع جميع الأطراف.
الطبقة الثانية: الدبلوماسية الإنسانية
استخدام عبارات مثل “إنقاذ إيران من الإذلال والموت” يهدف إلى تقديم صورة الوسيط الحكيم الذي يسعى لتجنب الكوارث، مما يفتح المجال أمام عودة المفاوضات في ظروف أكثر ملاءمة للجانب الأمريكي.
الطبقة الثالثة: إدارة التوازنات الإقليمية
الحفاظ على شراكة استراتيجية قوية مع إسرائيل مع عدم إغلاق الباب نهائياً أمام إيران يخدم الاستراتيجية الأمريكية في منع ظهور قوة إقليمية مهيمنة.
الخطر الكامن: استراتيجية اللا استقرار المحسوب
ما يثير القلق في النهج الترامبي هو اعتماده على مبدأ “اللا استقرار المحسوب” كأداة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. هذا المنهج، رغم فعاليته قصيرة المدى، يحمل مخاطر جسيمة على المدى الطويل:
*أولاً: تآكل القدرة على التنبؤ* – عندما تصبح السياسة الخارجية قائمة على التناقض والمفاجآت، تفقد العلاقات الدولية عنصر الثقة الأساسي للاستقرار.
*ثانياً: تصعيد غير المحسوب* – استراتيجية “الحافة” قد تؤدي إلى انزلاق غير مقصود نحو صراع واسع النطاق يصعب السيطرة عليه.
*ثالثاً: تقليص الخيارات الدبلوماسية* – الاعتماد المفرط على التهديد والضغط قد يؤدي إلى تجمد المواقف وصعوبة إيجاد مخارج دبلوماسية.
الأبعاد الإقليمية: إعادة تشكيل الشرق الأوسط
وصف ترامب للضربات الإسرائيلية بأنها “ممتازة” و”ناجحة للغاية” ليس مجرد تأييد، بل إشارة واضحة إلى رؤية استراتيجية أوسع تهدف إلى:
إعادة ترتيب موازين القوى
تعزيز الدور الإسرائيلي كقوة عسكرية مهيمنة في المنطقة، مما يخدم الاستراتيجية الأمريكية في احتواء النفوذ الإيراني دون تدخل مباشر مكلف.
خلق واقع جديد
فرض معادلة جديدة على إيران تجبرها على إعادة حساب استراتيجيتها الإقليمية والنووية، مما يفتح المجال أمام تفاوض من موقع قوة أمريكية-إسرائيلية.
اختبار الردود الإقليمية
قياس ردود أفعال القوى الإقليمية الأخرى، بما في ذلك روسيا والصين، لتحديد حدود التحرك المسموح به في المرحلة القادمة.
التحدي الاستراتيجي: نحو استقرار مستدام أم فوضى دائمة؟
النهج الترامبي يضع المنطقة أمام مفترق طرق حاسم. فمن جهة، قد ينجح في إجبار إيران على تقديم تنازلات جوهرية في برنامجها النووي وأنشطتها الإقليمية. ومن جهة أخرى، قد يؤدي إلى تصعيد خطير يجر المنطقة إلى صراع واسع النطاق.
المؤشرات الحالية تشير إلى أن ترامب يراهن على قدرة الضغط المتزايد على كسر الإرادة الإيرانية، لكن التاريخ يعلمنا أن الأمم عندما تُدفع إلى الزاوية قد تختار المقاومة على الاستسلام، مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
خلاصة: الحذر المطلوب
استراتيجية ترامب المعقدة تتطلب من القوى الإقليمية والدولية قراءة دقيقة ومتأنية لتجنب الوقوع في فخ التصعيد غير المحسوب. الخطورة الحقيقية تكمن في أن هذا النهج، رغم براعته التكتيكية، قد يخرج عن السيطرة ويتحول إلى مصدر زعزعة استقرار دائمة في منطقة تعاني أصلاً من تحديات جسيمة.
احذروا مستر ترامب ليس لأنه غير محسوب، بل لأن حساباته قد تكون أكثر تعقيداً وخطورة مما تبدو على السطح. في عالم الجيوسياسة، التناقض الظاهري قد يكون أخطر أنواع الاتساق الاستراتيجي.
……………………………………………………
كاتب المقال: إعلامى