شريف عبد القادر يكتب: “موت وخراب ديار”

بيان
من مساوئ التوريث المهني: توريث مهنة “التُربي”، الذي يتحصل على كارنيه من إدارة الجبانات بالمحافظة.
وأعتقد أنه عندما كانت الجبانات تتبع وزارة الأوقاف، كان “التُرَبية” ملتزمين مهنيًا وأخلاقيًا. ولكن ما يحدث من “التُرَبية” منذ عقود هو ابتزاز أهل المتوفى عند دفنه، وإحراجهم أمام المشيعين للحصول على أكثر مما يستحقونه، رغم أن “التُربي” لم يعد يقوم بالعمل بنفسه، بل يعتمد على عمّال يجلبهم لفتح المدفن ودفن الميت، بينما يكتفي بالمتابعة فقط.
وأغلبهم، إن لم يكن جميعهم، علاقتهم بالدين لا تتجاوز ما هو مذكور فى خانة الدين بالبطاقة (الهوية) ، ولذلك لا يتعظون بالموت.
ناهيك عن أن أغلبهم يتميزون بالبجاحة في طلب المزيد من المال مقابل الدفن، حتى لو كان المتوفى مسؤولًا فى الدولة، وكان ضمن مشيعيه مسؤولون كبار.
وأتذكر أنه إبان تولي الفاضل المحترم الدكتور عبد العظيم وزير، (رحمه الله وأسكنه فسيح جناته)، كمحافظ للقاهرة، كان ضمن مشيعي جنازة أحد الوزراء، وفوجئ مع المشيعين بإصرار “التُربي” على تقاضي ثلاثة آلاف جنيه مقابل الدفن.
ولتبرير طلبه الوقح، قال: “هو أنا كل يوم بيجيلي جثة وزير؟” وكان له ما أراد.
وفي تلك الفترة، فكّر الدكتور عبد العظيم وزير في تحديد قيمة رسوم الدفن، لكن تضاربت الآراء بشأن اختلاف مستويات المدافن وقيمتها، ولم يتوصل إلى حل لهذه الآفة، رغم أنه – رحمه الله – كان محافظًا نشيطًا، يتواجد بدون مقدمات في العديد من أحياء القاهرة، ويهتم بحل مشاكل المواطنين، ويستقبل من يرغب في مقابلته بمكتبه.
ومن الضروري الآن أن تقوم محافظة القاهرة بإلغاء توريث مهنة “التُربي”، ووضع قيمة محددة مقابل دفن الموتى، وأن يكون “التُربي” المعيّن خريج تعليم متوسط أزهري أو حاصلًا على دورات في الثقافة الدينية، وأن تخصص وزارة الأوقاف مشرفًا على كل منطقة مدافن، يتواجد أثناء دفن المتوفى ويتابع الدفن من الناحية الشرعية.
وليَتْ المحافظة تضع كاميرات مراقبة في المدافن، لأن بعض “التُرَبية” يتعمّدون إتلاف المدافن لإجبار أصحابها على إصلاحها بواسطة التُربي نفسه، ومنهم من يتعاطى المخدرات أو يخزّنها لكبار التجار، وهي في أمان تام، لأنه إذا صادف إبلاغ التُربي بتجهيز مدفن لوجود حالة وفاة، وكان بالمدفن مخدرات، فهناك وقت كافٍ لفتح المدفن ونقل ما فيه.
وتوجد آفة أخرى في المدافن التي شُيّدت في أماكن نائية مثل طريق الفيوم، والواحات بمدينة 6 أكتوبر، و”مايو” وغيرها، حيث يفرض “التُربي” على كل مدفن مبلغ ألف جنيه سنويًا تحت مسمى “الحراسة”، بخلاف المغالاة في تكلفة دفن المتوفى، وكل ذلك دون إيصال رسمي.
فهل قيمة الحراسة محددة من المحافظة التي يتبعها “التُربي”؟ وهل يسدد عنها ضرائب مثلًا؟
أما الآفة الأخرى، فعندما يريد أصحاب مدفن ترميمه أو إعادة بنائه، يُلزَمون باستخراج ترخيص ترميم من إدارة الجبانات مقابل خمسة عشر ألف جنيه “عدًّا ونقدًا”! وكانت في الماضي تُحصَّل مقابل دمغات، ولا نعرف الآن ما سبب هذا المبلغ.
وحسب عرض “التُربي”، يمكن دفع خمسة آلاف “تحت الترابيزة” ليتم الترميم بدون ترخيص!
وعند تنفيذ الترميم – سواء بترخيص أو بدونه – يتحول “التُربي” إلى مقاول، ويقوم بالترميم إجباريًا، وبقيمة تزيد أربعة أضعاف عن تلك التي قد يطلبها مقاول عادي، وتدعمه في ذلك إدارة الجبانات.
أما ما يحدث مؤخرًا، فأن الدولة تقوم بإزالة المدافن بدون أي إشعار أو احترام لحرمة الموتى، ومن يُزال مدفنه يتحمل عبئًا ماليًا ثقيلًا، حيث يُطلِق “البيه التُربي” العنان لنفسه في استيفاء الأوراق، ويطلب بكل بجاحة مبلغ خمسة عشر ألف جنيه مقابل نقل الرفات للمدفن البديل، والتعريف بمكانه.
ويضطر المواطن للرضوخ، لأن المحافظة – على الأغلب – تتقاسم معه، إذ يرفض “التُربي” الإفصاح عن المدفن البديل حتى لو لم يكن هناك رفات من الأساس بسبب تقادم الزمن.
كان الأجدر أن تتحمل الدولة تكلفة نقل رفات الموتى، وألا يُحمَّل المواطن أي أعباء مالية، وأن يتسلّم المدفن البديل بسهولة، بل وتخصص الدولة وسائل مواصلات عامة إلى المدافن النائية، لتسهيل زيارة المواطنين لموتاهم، وأن تفرض رسومًا محددة على نقل الموتى إلى تلك المناطق البعيدة، رحمةً بأهل المتوفى الذين يتعرضون للابتزاز من أصحاب السيارات الخاصة.
وأخيرًا، لماذا لا توضح الدولة خريطة تبين فيها المدافن التي ستتم إزالتها، وتلك التي ستبقى؟ وإن كان إزالة المدافن وعدم احترام حرمة موتى المصريين قد أغضبني كمواطن، فإن الدولة تهتم بمدافن “الكومنولث”، وعدد مواقعها في مصر سبعة عشر موقعًا!.
وأبان حكم مبارك، صدرت تصريحات عن نية الدولة إزالة المدافن القديمة واستغلال أراضيها في بناء ملاهٍ، وإزالة حديقة الحيوان وحديقة الأورمان ومستشفى العباسية للأمراض النفسية، واستغلال أراضيها عقاريًا.
لكن بعد اعتراض كثيرين، وعلى رأسهم الدكتور زاهي حواس، الذي أشار إلى أن هذه المواقع قائمة منذ أكثر من مائة عام وتُعدّ أثرًا، تراجعت الدولة عن هذه الخطط. إلا أن تنفيذها عاد مؤخرًا على بعض المدافن، عنوةً ودون مراعاة لحرمة الموتى.
فهل يسعى أصحاب المدافن التي لم تُزل بعد إلى الانضمام لمقابر “الكومنولث” كي تظل محفوظة من الإزالة في المستقبل؟.