د. عبد الغنى الكندى يكتب: استلهام العبرة التاريخية للتحذيرات العقلانية

بيان

تمهيد

بحسب ما توافر من معلومات حول ملابسات نشر المقال التالي للكاتب السعودي الكبير عبد الغني الكندي، فقد كان من المقرر أن يُنشر قبل يومين، أي قبل الضربة الأمريكية التي وقعت مساء اليوم (الأحد)، والتي كان الكاتب قد توقعها ضمنيًا في متن المقال.

وكان من المقترح أن يحمل المقال أحد العنوانين: “صدام وخامنئي ومعضلة الخيار العقلاني” أو “متى ستتخذ أمريكا قرار التدخل في الحرب؟”، إلا أن هيئة التحرير فضّلت العنوان الحالي: “استلهام العبرة التاريخية للتحذيرات العقلانية”.

يتناول المقال قراءة تحليلية معمّقة في خلفيات تاريخية وسياقات إقليمية مختلفة، لفهم العوامل التي قد تدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ قرار بالحرب، مستحضرًا في سياق ذلك التحذير العقلاني الشهير للأمير الراحل سعود الفيصل، رحمه الله، في موقف مشابه للأحداث التي نعيشها اليوم.

وإليكم فى التالى نص المقال:

 في عام 2003، أعرب وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل، عن رؤيته في مسألة الحرب الشاملة الوشيكة على العراق، مشيراً إلى أن مواجهة الوضع حينها تتطلب تضحية من صدام حسين. واستطرد قائلاً: «إن صدام، الذي كان يدعو العراقيين إلى التضحية من أجل وطنهم، يُتوقع منه اتخاذ خطوة مماثلة». ولو كان صدام قد أخذ بهذه النصيحة، وتبنّى نهجاً عقلانياً، واستقرأ المستقبل بطريقة أكثر مرونة وبراغماتية، متجنباً عناده وشعاراته الصاخبة وغير الواقعية، لتغير مسار الأحداث في المنطقة بشكل كبير، وكان من الممكن تفادي اندلاع حروب طائفية، وكوارث إنسانية في العراق، بما في ذلك التهجير الجماعي، وانتشار التنظيمات الإرهابية، وتدمير النسيج الثقافي والاجتماعي والحضاري للعراق.

ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه مجدداً، ولكن هذه المرة من إيران، الدولة المجاورة للعراق، حيث تبلور خطاب دولي معارض لامتلاك إيران سلاحاً نووياً، بما في ذلك الصين وروسيا، حليفتا إيران التقليديتان. وعلى الرغم من أن إيران تروج لبرنامجها النووي على أساس أنه موجه للأغراض السلمية، فإن الثقة الدولية بمصداقية تلك الادعاءات والنوايا الإيرانية ظلت مهزوزة وضعيفة. وهذا الضعف يعزى إلى سياسات طهران التوسعية، ودعمها للميليشيات المسلّحة التي تُقوّض استقرار الأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، فضلاً عن تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، ورفعها شعارات دينية وسياسية تحريضية تُلهب التوترات الإقليمية والدولية. وبطبيعة الحال أدت هذه السياسات الإيرانية إلى اهتزاز الثقة العالمية بسلمية نشاطها النووي، وزادت من الشكوك بشأن نواياها الحقيقية من هذا البرنامج.

وعلى عكس صدام حسين، فإن المرشد الإيراني علي خامنئي، يمتلك خيارات أوسع للتضحية والمناورة العقلانية أكبر بكثير من صدام. فأميركا التي كان هدفها الاستراتيجي إسقاط النظام البعثي، وطرد صدام وأسرته من العراق بحرب شاملة، لم تطرح هذا الخيار في هذه الحرب التي يبدو أنها تكتيكية وليست استراتيجية. فالخطاب الرسمي لكل من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لم يضع إسقاط النظام الإيراني هدفاً رئيسياً، بل ركز على تعديل سلوكه السياسي. وقد صرح ترمب ونتنياهو بأن قرار تغيير النظام يجب أن يأتي من داخل الشعب الإيراني نفسه، مع إمكانية أن يكون سقوط النظام نتيجة جانبية للضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية، وليس غاية أساسية للحملة العسكرية، على عكس حال الهدف الاستراتيجي المعلن من الإطاحة بصدام، وتفكيك نظام «البعث» العراقي. وعلى ضوء اختلاف هذه الأهداف الاستراتيجية، فإن موقف خامنئي التفاوضي يبدو أكثر قوة، مقارنة بالظروف التي أحاطت بصدام حسين.

ومن حسن حظ خامنئي، أن ترمب ليس بوش الابن، وأن مزاج غالبية الرأي العام الأميركي مناهض لأي حروب أميركية شاملة بالمنطقة، على عكس ما كان عليه قبل الحرب على العراق؛ بسبب التداعيات الكارثية التي خلفتها حروب بوش الابن على الذاكرة الجمعية الأميركية. ومن الواضح أن الإدارة الأميركية في عهد ترمب تتجنب سياسات الحروب الشاملة، وتركز بشكل أكبر على عقد الصفقات الاقتصادية وانتهاز الفرص الاستثمارية بصرف النظر عن طبيعة النظم السياسية، علاوة على ميوله الشخصية للعزلة الدولية، على عكس فترة إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، التي أظهرت آنذاك ميلاً أكبر نحو شن الحروب الشاملة من أجل تغيير النظم غير الديمقراطية. وقد انتقد ترمب علناً التدخلات الأميركية المكلفة في كل من العراق وأفغانستان وليبيا، وتغيير أنظمتها، مُعتبِراً أن تلك السياسات كانت قد شكلت عبئاً مالياً هائلاً على دافعي الضرائب الأميركيين. وفي أكثر من مناسبة انتقد ترمب القيم المثالية للسياسة الخارجية الأميركية التي ترتكز على تغيير النظم السياسية غير الديمقراطية، والانقلاب على القادة المستبدين، بما في ذلك مقابلته الشهيرة مع المذيع بيل أورايلي بـ«فوكس نيوز» في عام 2017 التي رد فيها على تساؤل المذيع بأن «بوتين قاتل» فأجاب: «ونحن لدينا كثير من القتلة، وهل تعتقد أن بلادنا بريئة؟». وهذا يؤكد ما طرحه الزميل الأستاذ عبد الرحمن الراشد بمقاله بأن استهداف المرشد «تفكير مجنون».

بالإضافة إلى هذه الاعتبارات الاقتصادية، فإن حالة اللايقين المصاحِبة لأي محاولة لإسقاط النظام الإيراني قد تزيد من تعقيدات الوضع السياسي بالنسبة لإدارة ترمب. فإيران تمثل لاعباً استراتيجياً في منطقة ذات حساسية جيوسياسية واستراتيجية وخدمات لوجيستية كبيرة، وأي تغيير مفاجئ قد يولّد فراغاً سياسياً قد تستغله قوى دولية مجاورة كالدب الروسي، والتنين الصيني؛ لتعزيز نفوذهما. كما أن انهيار النظام الإيراني قد يؤدي إلى نتائج غير متوقَعة قد تشمل ردود الفعل الانتقامية في حال الإطاحة بأهم مرجع شيعي في العالم، وتفكيك فسيفساء المجتمع الإيراني المعقد والمتنوع عرقياً وطائفياً وثقافياً، وفي ظل غياب بديل سياسي موحَّد ومتوافَق عليه داخلياً ودولياً. وهذا السيناريو قد يُفضي إلى أزمات إقليمية ودولية تتجاوز عواقبها الوخيمة ما خلفه الاحتلال الأميركي للعراق الذي ينتقده ترمب بشدة. وبالتالي، يبقى مشهد إسقاط النظام الإيراني مفتوحاً على خيارات غير محسومة، واحتمالات متشابكة ومعقدة، تزيد من ضبابية الأفق السياسي في المنطقة.

ومن المحتمل أن تكون رغبة ترمب في تجنب هذا السيناريو هي الدافع الأساسي لتأجيل قراره بشأن الحرب لمدة أسبوعين. وبخلاف مهلة الـ48 ساعة التي منحها بوش الابن لصدام حسين وعائلته لمغادرة العراق قبل شن حرب شاملة للإطاحة بنظام «البعث»، فإن استراتيجية ترمب تميل نحو حرب تكتيكية ذات أهداف استراتيجية مختلفة. الهدف هنا ليس الإطاحة بالنظام، بل الضغط على حكومة طهران لإجبارها على التفاوض وفق شروط جديدة، وصفقة مغايرة لاتفاق أوباما التي أخفقت في كبح دعم طهران لميليشياتها في المنطقة، وتطوير برامجها الصاروخية بعيدة المدى، فضلاً عن توفير مساحة للمناورة لتحسين برنامجها النووي. وهذا الاتفاق الذي ألغاه ترمب خلال فترته الرئاسية الأولى، يبدو أنه يسعى إلى تصحيحه في مسار أي مفاوضات مقبلة مع إيران في فترته الرئاسية الحالية. بل يمكن القول إن سد هذه الثغرات التي خلفتها اتفاقية أوباما مع طهران يمثل الركيزة الأساسية لجوهر الاستراتيجية الأميركية في هذه المرحلة، حيث زادت احتمالية تحقيقها بعد تعرض الأذرع الإيرانية في المنطقة للضعف الشديد. ولكن باتت هذه الأهداف أقرب إلى التحقق والواقع مع تكثيف الضربات الإسرائيلية التي استهدفت منصات إطلاق الصواريخ، والمنشآت النووية، بالإضافة إلى استهداف القيادات العسكرية وعلماء الطاقة النووية، ومراكز الدعم الاستراتيجي واللوجيستي كافة داخل إيران.

ويبدو أن مهلة الأسبوعين، التي منحها ترمب، كانت تهدف لإتاحة الوقت اللازم أمام إسرائيل لتدمير أكبر قدر ممكن من القدرات العسكرية الإيرانية، مما يضعف قدرة طهران على الرد الانتقامي، ويحد من خطر استهداف القواعد الأميركية، أو مصالح الدول المجاورة، إذا ما قررت الولايات المتحدة خوض مواجهة عسكرية. وتشير المعطيات إلى أن الاستراتيجية الأميركية لإدارة الحرب تميل نحو استنزاف قدرات إيران الدفاعية والهجومية بشكل ملموس قبل التدخل. ويشبه ذلك النهج الذي اتبعته واشنطن إبان الحرب العالمية الثانية، حيث انتظرت حتى استنزفت القوى المتصارعة مواردها قبل التدخل الأميركي الحاسم، وكذلك حرب العراق، حينما تدخلت بعد تعرض هذا البلد للإنهاك الشديد؛ نتيجة للحصار الطويل الأمد. ولا يُستبعد اتباع نهج الانتظار الاستراتيجي نفسه؛ لاستنزاف القوة الإيرانية، تمهيداً لاستخدام القنبلة الأميركية القادرة على دك التحصينات النووية الإيرانية في حال رفضت طهران الإذعان لخيار التفاوض تحت الإكراه، وهو سيناريو يذكِّر باستخدام أميركا القنبلة الذرية لإنهاء الحرب العالمية الثانية، وإجبار اليابان على الاستسلام غير المشروط.

من جهة أخرى، في حال رضخت إيران واتجهت نحو قبول التفاوض بشروط أميركية قاسية، أو استسلام غير مشروط، فإن هذا سيكون بمثابة الثعبان الذي يأكل ذيله، لأن هذا الانصياع قد يقود إلى انهيار تدريجي للنظام السياسي الإيراني. فطيلة العقود الماضية استمد هذا النظام شرعيته من شعارات رفض الهيمنة الغربية، ومواجهة إسرائيل، وكرَّس موارده الاقتصادية لدعم التسلح والحروب على حساب التنمية المحلية. وبالتالي فإن أي قبول بشروط تفكيك برنامجها النووي، وإيقاف دعم وكلائها، سيؤدي إلى تقويض شرعية النظام الإيراني التي بُنيت على تلك الأسس الآيديولوجية المعادية لأميركا وإسرائيل، مما قد يُفضي على المدى الطويل إلى تصدع النظام، وربما انهياره نتيجةً لمضاعفات هذه الحرب.

في حقيقة الأمر، يبدو أن الخيارين المتاحين أمام الحكومة الإيرانية ينطويان على تعقيدات شديدة، حيث يُفضي كل خيار منهما إلى تبعات خطيرة. الخيار الأول يتمثل في خضوع القيادة الإيرانية لما قد يُعدُّ استسلاماً قاسياً، أو قبول الشروط التي تطرحها الولايات المتحدة وإسرائيل. ورغم أن هذا السيناريو يحمل خطر تقويض شرعية النظام وربما انهياره على المدى الطويل، فإن تداعياته المباشرة على الأفراد والمجتمع الإيراني ستكون أقل تكلفة. أما الخيار الثاني فيُتيح اتباع نهج المواجهة والتصعيد، مستلهماً خطى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، من خلال التمسك بسياسة العناد والتحدي، ورفع الشعارات الرنانة والخطب الحنجورية. وهذا المسار سيؤدي غالباً إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة، وربما بمشاركة حلفاء غربيين آخرين. وفي هذه الحالة، ستتكبد إيران تكلفة باهظة تشمل استنزاف مواردها الوطنية، وهياكلها الاقتصادية والاجتماعية، ورأسمالها الإنساني، وربما يسهم ذلك في تسريع انهيار وتفكيك النظام الحاكم. وفي الوقت ذاته، لربما ستكون الآمال الإيرانية معقودة على دعم كل من الصين وروسيا في الدفاع عنها، وهو أشبه بما حدث مع صدام حسين، عندما اعتمد على رهانات مماثلة انتهت بخذلانه من هاتين الدولتين، وخسارته الحرب وخسارة حياته، بالإضافة إلى تدمير دولته ومجتمعه بالكامل.

وفي الختام، من الجدير بالذكر استلهام العبرة التاريخية للتحذيرات العقلانية التي وجهها الأمير سعود الفيصل لصدام حسين آنذاك بالتضحية بموقعه الشخصي حفاظاً على بلاده، وهي نصيحة لم تُؤخذ بعين الاعتبار، وانتهى صلف وعناد القيادة حينها إلى أحد أبرز الإخفاقات في التاريخ السياسي الحديث.

طالع المزيد:

د. عبد الغنى الكندى يكتب: لماذا فاجأت المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية العرب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى