د. محمد إبراهيم بسيوني يكتب: مغامرة عسكرية ضد مصالح ترامب ونتنياهو

بيان

الهجوم الأميركي على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو 2025 شكّل لحظة فارقة، ليس فقط عسكريًا بل سياسيًا واستراتيجيًا على مستوى الإقليم والعالم.

بعد الضربة الأميركية التي استهدفت المفاعلات النووية الإيرانية، دخلت المنطقة مرحلة دقيقة تتسم بالغموض والترقب، وسط تعدد في السيناريوهات وتداخل في الحسابات.

الرد الإيراني لم يتأخر، وإن كان محسوبًا ومدروسًا، ركز على إسرائيل وتجنب الاصطدام المباشر مع الولايات المتحدة، وهو ما يعكس إدراكًا لطبيعة المواجهة واختلال موازين القوى.

من جهة أخرى، تملك إيران أوراق ضغط متعددة من خلال حلفائها الإقليميين، لا سيما الحوثيين، ما يسمح لها بإبقاء التوتر قائمًا دون الدخول في حرب شاملة قد تستنزفها بشكل قاتل.

في المقابل، تبدو الولايات المتحدة وكأنها حققت هدفًا تكتيكيًا بتدمير البنية النووية دون الدخول في مغامرة إسقاط النظام، الأمر الذي قد يرضي الداخل الأميركي ويُرضي إسرائيل التي تسوّق نجاح العملية كضربة استباقية مبررة.

هذا التوازن الظاهري يسمح لكل طرف بادعاء النصر وتهيئة الأجواء للانتقال إلى مرحلة التفاوض، بدفع من روسيا والصين اللتين ترفضان انهيار إيران أو إدخالها في فوضى شبيهة بما جرى في العراق وسوريا.

لكن رغم كل هذا، لا يمكن تجاهل احتمال أن يُستثمر التصعيد الأخير في تحريك الداخل الإيراني، سواء عبر دعم حركات مناهضة للنظام أو من خلال تكثيف الضغط الاقتصادي والإعلامي لإضعاف تماسك الدولة.

ومع أن مثل هذه التحركات ليست جديدة، إلا أن توقيتها بعد ضربة عسكرية كبرى يجعلها أكثر خطورة وفاعلية، ويزيد من التحديات أمام طهران.

في النهاية، يبدو أن الخيار الأقرب هو العودة إلى طاولة التفاوض، ولكن بعد جولة من القصف المتبادل وعمليات عض الأصابع، لفرض شروط أقوى على الطاولة.

الحرب لن تغير التوازن جذريًا، لكنها ستترك بصماتها العميقة، سواء على النظام الإيراني الذي سيخرج أكثر حذرًا وتوترًا، أو على إسرائيل التي لا يمكنها الاستمرار في التطرف والعنصرية دون دفع ثمن أمني متزايد.

أما الإقليم ككل، فقد دخل مرحلة جديدة لم يعد ممكنًا فيها تجاهل أثر القوة والردع في رسم معادلات السياسة.

تكلفة الضربة التي قدّرت بحوالي 546 مليون دولار من حيث الذخائر والتشغيل والدعم اللوجستي، لا تمثل سوى جزء ضئيل من الكلفة الحقيقية التي بدأت تتضح مع توالي الردود الإيرانية، وارتفاع حدة التوتر في المنطقة، وما يصاحبها من اضطرابات في سوق النفط واحتمالات توسع رقعة الاشتباك.

هذه الأعباء، وإن بدت قابلة للتحمل في المدى القصير، فإنها في حال تحول النزاع إلى حرب استنزاف، ستثقل كاهل الخزينة الأميركية، وتثير غضب الداخل الأميركي المتذمر أصلًا من تدهور الخدمات العامة وتفاقم الديون.

المفارقة أن هذه المغامرة العسكرية قد تصب في مصلحة خصوم ترامب داخليًا، خصوصًا إذا تحوّلت إلى ملف مفتوح بلا حسم واضح.

فكل يوم إضافي من التوتر، وكل دولار يُنفق على المواجهة، يُعيد طرح السؤال أمام المواطن الأميركي: لماذا نواصل الانخراط في صراعات لا نكسب منها شيئًا؟ ولماذا تدفع واشنطن فواتير المعارك الإسرائيلية؟ هذا النوع من الأسئلة قد يتحول سريعًا إلى حالة غضب سياسي واسعة إذا استمرت الأزمة أو اتسع نطاقها.

أما على الجانب الإيراني، فالواضح أن القيادة تسير في اتجاه مزدوج: امتصاص الضربة واستثمارها داخليًا كدليل على “العدوان الغربي”، مع تسريع وتيرة البرنامج النووي بشكل أكثر سرية، وفتح قنوات تفاوض غير مباشرة لجني مكاسب سياسية، خصوصًا في ظل دعم صيني روسي رافض للفوضى الإقليمية.

وكلما طال أمد التصعيد، زادت قدرة طهران على التحرك ضمن مساحة رمادية تربك خصومها، وتحافظ بها على شكل من أشكال الردع.

في النهاية، لن تتوقف الحسابات على من أطلق الصاروخ أولًا أو من امتلك اليد العليا عسكريًا، بل على من ينجح في إدارة ما بعد الضربة سياسيًا واقتصاديًا. أميركا قد تكون وجهت ضربة قوية، لكن ما بعدها سيكون أكثر تعقيدًا، وربما أكثر كلفة مما تتصور إدارة ترامب اليوم.

طالع المزيد:

د. محمد إبراهيم بسيوني يكتب: توازن الرعب بين إيران وإسرائيل

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى