عاطف عبد الغنى يكتب: « ص . د » واعظ في موسم توزيع الغفران

بيان
بعد الكر والفر واضح أن الملياردير المصرى – الأمريكى (ص . د) قد “حل الكيس” فتم الرضاء عنه ودعوه يمر.
لا مانع لدى أن يدفع الملياردير المذكور بعض من أمواله للدولة لتعود بأى صورة من الصور للشعب، إلى مصدرها الأول الذى تم جمعها منه، لكن المانع هو أن ننسى.. أن ننسى ما كان منه، وأن نفتح له منافذ الإعلام ليطل منها فى صورة ملاك لا ينقصه إلا أجنحة تحمله إلى الأرض، ونعطى له الفرصة كاملة ليخدع الجماهير ويفتنها – مجددا – بأكاذيب ملونة بألوان التقوى والإنسانية، والنبل.. وحين نفعل فنحن نمنح الذئاب مرة أخرى أن تتخفى فى إهاب الحملان الوديعة، لتعود وتمارس الأدوار المنوط بها لعبها على الجماهير فى حروب الجيل الرابع القادمة من “الثنك تانك” الغربى عبر “الفضاء الرقمى”.
معقولة أن نعود لنقع فى نفس الأخطاء وندفأ نفس الثعابين التى لدغتنا من قبل وأصابتنا بسمومها .. هل نسينا من هو (ص . د) والدور الذى لعبه فى الربيع العبرى، من خلال اقتحامه مجال الإعلام بتوجيهات من الخارج، ودور الصحيفة التى أنشأها؟!
.. إذا كنتم نسيتم فدعوني أُنعش ذاكرتكم قليلًا.
(ص . د) لم يكن مجرد رجل أعمال ظهر فجأة على السطح بثروة “قدرية”، بل كان ـ ومنذ سنوات طويلة ـ جزءًا من شبكة مصالح مركّبة تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والإعلام بالأجندات العابرة للحدود.
ومن خلال “الصحيفة التى أنشأها”، شكّل أحد أبرز الأصوات التي سوّقت لأهداف ما يُعرف بـ”الربيع العربي” وفق النسخة المعدّلة أمريكيًا، تلك النسخة التي لم تُزهر حريةً ولا عدالةً، بل حريقًا في مؤسسات الدولة، وتحريشًا ممنهجًا بين أبنائها، وترويجا للتطبيع، وتنفيذ مشاريع “النيو ليبرالية”، وكانت نافذة دائمة لرموز “الانقلاب المعنوي” على ثوابت المجتمع؟ والتى ما زلنا نعاني من تبعاتها.
.. عندما اقتحم الملياردير مجال الإعلام بتوجيهات من الخارج لم يكن بريئًا فى مسعاه، أو وطنى يبحث عن الحقيقة، بل مستثمرًا في الفوضى، يحوّل الجريدة إلى منصة تهيئة للرأي العام، تستضيف كل من هو غاضب، ساخط، مُعبأ، دون أن يكلّف نفسه أو يُكلّف محرريه بالتثبّت أو التوازن.
وسُمح له نظام مبارك – الذى كان يهادن فى هذا الوقت من أجل تمرير التوريث، ولا يريد أن يغضب السيد الأمريكى – أن يلعب دور المُعارض “الآمن”، والمثقف “التنويري”، بينما في الخفاء، كانت خيوط التمويل والعلاقات تحيك أهدافًا أكبر بكثير من مجرد مواقف إعلامية أو تنويرية.
هل يمكن أن نغفل كيف تحوّلت أعمدة الصحيفة إلى معاول ناعمة لهدم مفاهيم الدولة الوطنية، وتشويه الجيش، وتبني سرديات غربية الصياغة عن ملفات داخلية؟
واليوم، حين يُعاد تدوير الرجل نفسه بلغة جديدة مصبوغة بروح “الزهد”، ويخرج ليُحدّثنا عن “السعادة الشخصية” و”أن المال لله”، و”أن الحج السياحي لا يجوز”.. علينا أن نتساءل عن تكلفة أفراح الأنجال وقد كانت موائدها عامرة بالطعام الذى يأتى ساخنا من “مكسيم الباريسى” إلى فصر الملياردير الكائن فى حضن النيل بالمنيب؟.. وهذا مجرد بند واحد من بنود التكلفة.
وهل لنا – ونحن نعرف كثير من الأسرار – أن نصدقك حين تتحدث عن مقاصد الشريعة فى الحج؟.. وهل كلامك الأخير مجرد تطوّر إنساني حقيقي لرجل راجع نفسه؟ أم أن وراء هذا “الغسيل الروحي” مشروعًا جديدًا أكثر خطورة، ناعمًا بقدر ما هو عميق التأثير؟
المشكلة ليست في غفران الدولة له ـ فذاك شأنها ـ إن كانت قد قايضت المال بالصمت، أو الاستقرار بالمصالحة.
المشكلة أن يُطلب منّا نحن، الجمهور، أن ننسى، أن نصدّق، أن نُخدَع مجددًا، أن نمنح الغفران بلا مراجعة، وأن نُسلم عقولنا مرة أخرى لنفس “الذئب” المتنكّر، وننسى أن الشعوب التى لا تحفظ ذاكرتها تسقط فى فخاخها مرات ومرات.
والرسالة الأخيرة للملياردير العائد بقوة التلميع الإعلامى: إذا كنت قد تغيرت فعلًا، فلتعتزل الأضواء، أو لتبدأ بمكاشفة حقيقية عن أدوارك الماضية، لا أن تقفز فوقها لتتحوّل ـ على حين غرّة ـ إلى “واعظ تلفزيوني” في موسم توزيع الغفران الإعلامي.
وأخيرا هل لنا أن نسأل ببساطة: من الذي يعيد تلميعه الآن؟ ولماذا؟.