بين مصر واليمن.. علي أحمد باكثير والمشترك الثقافي (2من3) بين التقليد والحداثة

 

 

 

 

دراسة يكتبها: د. قاسم المحبشى

نقصد بالتقليد والحداثة نمطين أو شكلين مختلفين للحياة والعمل والفكر والسلوك، وكل ما يتصل بحياة الناس في أثناء ممارستهم لحياتهم الاجتماعية والثقافية، نمط المجتمع التقليدي مجتمع باكتير الشرقي الأسيوي الإسلامي العربي الحضرمي الزراعي الرعوي الأبوي البطريكي العشائري القبلي البدوي، الشفاهي السحري اللاهوتي التاريخي الماضوي، إنَّهُ بمعنى أنَّ نمط حياة الناس فيه هو تقليد لحياة الذين سبقوهم من الأسلاف والأجداد والآياء، التقليد من اسمه هو النسج على المنوال ذاته، المحاكاة، الحفاظ على عادات وتقاليد وقيم الماضي، والحياة التقليدية تستمد مثالها الأعلى من محور تصنيفي معروف ومتجسد ومتاصِّل ومتکرر في مجتمع محافظ ساكن، لا تقدُّم فيه ولا حركة ولا تغيُّر، وهذا هو المجتمع الذي وُلِد فيه علي أحمد باكثير ونشأ وتعلَّم.

أمَّا الحداثة، أو المجتمع الحديث، فتعني هُنا أوروبا الغربية وأمريكا الصناعية التجارية الصليبية اليهودية الاستعمارية، الحداثة من حيث هي نمط حياة جديد ومختلف كُليًّا عن المجتمع التقليدي، والفرق الأساس بين المجتمع الحديث والمجتمع التقليدي يكون السيطرة الكبيرة التي للإنسان الحديث على بيئته الطبيعية والاجتماعية، وتعتمد هذه السيطرة بدورها على العلم والتكنولوجيا، يقول والت روستو: “المجتمع التقليدي هو الذي تتطور بنيته ضمن وظائف إنتاج محدودة ترتكز على ما قبل العلوم النيوتونية”(5).

اقرأ أيضا:

ويرى معظم المفكرين أنَّ هذه الفروق ي مدى سيطرة الإنسان على بيئته تعكس فروقًا في توجهاته الأساسية نحو بيئته وتوقعاته منها، فالإنسان التقليدي سلبي مَيَّال للإذعان، يتوقع الاستمرارية في الطبيعة والمجتمع، ولا يؤمن بمقدرة الإنسان على التغيير والسيطرة، وعلى النقيض يؤمن الإنسان الحديث بكل ثقة بإمكان التغيير والرغبة فيه، وعنده ثقة بمقدرة الإنسان على ضبط التغيير لكي يحقق أغراضه، وإذا ما استخدمنا لغة أولفين توقلر لجاز لنا القول إنَّ الأديب علي أحمد باكثير وقف بين حضارتين، حضارة الموجه الأولى، (الحضارة الزراعية) وحضارة الموجة الثانية (الحضارة الصناعية) بكل ما تتسم به كل حضارة من سمات وخصائص مادية ومعنوية.

باكثير وعي الذات وتحدِّي الآخَر:

إنَّ مشكلة وعي الذات ووعي الآخر ليست من اليسر بحيث تنكشف لكل إنسان بذاتها ولذائها، بل هي عملية شديدة التعقيد والهم. إذ قد يعيش الناس مئات السنين من غير أن يتمكنوا من اكتشاف الحجب والوصول إلى درجة وعي الذات والآخر، فالذات إذا ما تركت لذائها من غير أن تصطدم بتحدِّي الآخر فسوف تظل عمياء غير واعية لذاتها، وهذه هي طبيعة الإنسان الذي إذا ما حيل بينه وبين ذاته لتصوَّر نفسه مركز الكون، هذا معناه أنَّهُ ثمَّة علاقة جدلية تفاعلية تبادلية بين الذات والآخر، فالآخر مرأة الذات، ومعرفة الآخر تفضي إلى التعرُّف على الذات.

وقبل إطلاق أيَّ حُکم نافذ عن مجتمع بعيدٍ ما، لا بُدَّ أن يبلور الشخص موقفًا واضحًا قدر الإمكان عن مجتمعه نفسه، وسرعان ما سيكتشف أنَّ الطريق الوحيد التحقيق كشف المحجوب عن الذات إنَّما يتم بالدراسة (المقارنة) لذاته أثناء انهماكها برصد الآخرين، وبأن يعي أنماط التشويهات التي ينطوي عليها هذا الموقف بالضرورة، فرصد الآخرين وتأويلهم هي أيضًا دائمًا وسيلة تؤدِّي إلى رصد الذات(7).

وهذا هو الموقف الذي وقفه المثقف علي أحمد باكثير في النصف الأول من القرن العشرين، وهو الموقف نفسه الذي كان عليه قبله جموع المثقفين والأدباء العرب والمسلمين، منذ لحظة اصطدامهم بالحضارة الحديثة، واستيقاظهم العنيف على أصوات مدافع نابليون في حملته الفرنسية على مصر والشام 1798م، وتولي محمد علي باشا 1805م حُكم مصر، وفي اللحظة التي تم تعميدها كبداية لما بعرف لاحقًا (بالنهضة العربية الحديثة)، إذ شاهد المصريون والشاميون لأوَّل مَرَّة القنابل (التي سمَّاها الجبرتي القنبر) وكانوا يواجهونها بالخيول، وشاهدوا المطبعة للمرَّة الأولى تطبع الكلام والمنشورات ،،، واحتك العرب بمبادئ الثورة الفرنسية “الحرية والإخاء والمساواة”. ويعد سنوات من حدوث هذا الاصطدام العتيق بين مجتمعنا التقليدي والحداثة الغربية أصدر رفاعة الطهطاوي مجلة “الوقائع المصرية” وترجم الدستور الفرنسي ونشيد الثورة الفرنسية، وأصدر كتابه العمدة “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” وهو واحد من الكتب المبكرة في النهضة العربية الحديثة التي حاولت المقارنة بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث، وكيف يمكننا أن نأخذ بأسباب التقدُّم والتمدُّن مع الحفاظ على خصوصيتنا وهويتنا الذاتية. ولعلَّ ذلك الفهم المنير كان بذرة اساسية استندت إليها الآداب والفنون العربية فيما بعد في إنجاز نقلتها الكبيرة (??.

وهكذا تغدو العودة إلى علي أحمد باكثير عودة إلى حقبة فاصلة وحاسمة في تاريع مجتمعنا العربي الإسلامي التقليدي، إنها حقة اصطدامنا بواقعة الحداثة الغربية بكل تجلياتها المادية والمعنوية.

وعلي احمد باكثير حياته وسلوكه وأدبه وفكره ولغته وخطابه وأسلوبه إنَّما كان يود – على طريقة رجالات (النهضة العربية) أمثال الطهطاوي ومحمد عبده وفرح أنطون و جمال الدين الأفغاني وشبلي شميل ورشيد رضا، وعلي عبد الرزاق وطه حسين وغيرهم، لتغيُّر داهم طرأ في الأفق الروحي للعرب المعاصرين ألا وهو ولادة طرق جديدة للتفكير تتخذ من واقعة الحداثة في الغرب إحداثية أساسية لها، إذ ذاك “أصبحت الحداثة فجأة برنامجًا سِريًّا لكل عقول المبدعين العرب، ودهشة العرب من الحداثة هي أهم حدث روحي تاريخهم الحديث والمعاصر.

إن حُب الاطلاع المتاصِّل في ثقافتهم الأولى قد اندثر فجاة، وأصاب وعيهم بالتاريخ انكسار عجيب، فالعلاقة بالحداثة ليست علاقة تقليدية بأمَّة أخرى، تكتفي بالاطلاع على أنماط حياة أهلها وغرائب عاداتهم، بل في احتدام روحي بأفق تاريخي لم يقع التهيؤ له أصلًا وفي هذا الأفق لا معنى لا للاندهاش كواقعه روحية لا يبدو أننا أفلحنا في الإفلات منها(9).

هكذا نزعم من غير ريب بأنَّ واقعة الحداثة الغربية بكل تجلياتها السياسية الاستعمارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية والعقائدية.. إلخ كانت وما زالت تُمثّل التحدِّي الوجودي والثقافي الأوَّل في حياة مجتمعنا الشرقي العربي الإسلامي. وفي ضوء ذلك يمكن النظر إلى تاريخ (النهضة العربية منذ محمد علي باشا ورفاعة الطهطاوي حتى الأن كاستجابات متنوعة وردود أفعال متعددة وتاويلات متباين عند النخب العربية والإسلامية المثقفة وغير المثقفة على تحدِّي واقعة الحداثة.

من هُنا يمكن لنا فهم المأزق المتناقض الذي وقع فيه المثقف العربي النهضوي العلماني أو الإسلامي، إذ أنَّ وعيه لم يتألف في ظل شروط اجتماعية وثقافية موضوعية مجتمعه، بل في التأثير الحاسم والصادم العاصف للحداثة الغربية الأوربية الأمريكية الاستعمارية الصهيونية التي تمتلك كل أسباب القوة والسلطة والسطوة والنفوذ والهيمنة، وعلى وفق ميشيل فوكو في جدلية العلاقة بين المعرفة والسلطة، فرضت الحداثة على كل القاطنين في المجتمعات التقليدية أنماطها الثقافية والجمالية وإعادة تكوين وصيانة العالم برُمَّته بما يتفق مع معاييرها هي، بحيث أصبحت شرطا ومعيارًا للتقدم والتحضر والتحديث لمن أراد أن يعيش في هذا العالم الحداثي(10)، في هذا السياق التاريخي الثقافي الواسع علينا النظر إلى الأديب المثقف علي أحمد باكثير، وهذا لا يعني بأية حال من الأحوال أنَّنا نفسر الإرث الأدبي والثقافي لباكثير بعدِّه مجرد استجابة ميكانيكية على تحدي الحداثة الغريبة، بل نرى في كل ما أنتجه من أدب وفكر ثمرة لجملة معقدة من العوامل والشروط الوجودية والسيكولوجية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية والجمالية والدينية، إلخ.

با کثير .. تأديب السياسة وسياسة الأدب :

ليس بمقدور أحد من بني البشر الإفلات من قبضة السياسة وتأثيرها المباشر وغير المباشر، إذ أن تأثيرها حياتنا يفوق تأثير الظواهر الطبيعية: المناخ والحر والبرد والجدب والخصب.. ألخ، ولهذا قيل إنَّ الإنسان كائن سياسي بالفطرة، وكلما حصل المرء على قدر أوفر من التعليم والذكاء الثقافي رهفت حساسيته السياسية واتسع إدراكه لأهميتها وتحدياتها.
والسياسية في القوة التي تمارس حضورها الضاغط على الأجساد والنفوس وعلى الأشياء والكلمات وتعيد صياغتها وتكوينها بما يخدم هيمننتها ويبرِّر شرعيتها، والسياسية هي “الزمن الذي لا يمُر”(11)، حسب دوبرية، بمعنى أنَّها بنت الحاضر وقوته وفعاليته الحية المباشرة، فضلًا عن كون المجال السياسي في الثقافة العربية الإسلامية منذ أقدم العصور حتى الساعة، فقد بسط هيمنته ونفوذه العنيف على كل المجالات التي يفترض أنها نوعية ومستقلة المجال الاقتصادي، والمجال الثقافي، والمجال الديني، والمجال العلمي، والمجال المدني، إلخ والمجال الأدبي(12) حسب عالم الاجتماع الفرنسي بورديو.
وحياة علي أحمد باكثير الذي ولد وعاش وعمل وأبدع وفكر ي واقع الاستعمار الغربي الهولندي والإنجليزية والفرنسي والايطالي والألماني … إلخ تُعَدُّ شاهدًا صارخًا على أثر السياسة وتأثيرها في تشكيل وصياغة حياة ومصائر الأفراد والجماعات، فما الذي يفسر هجرة الحضارم إلى الأرخبيل الهندي ؟ وما الذي دفع والد باكثير للعودة بابنه إلى حضرموت ليتعلم بعيدًا عن أمِّه وأبيه؟ وما الذي دفع الأديب علي أحمد باكثير للبحث عن وطن بديل بعد أن استحال عليه العيش في حضرموت، “إذ كانت الحياة حضرموت غريبة، لم تكن البلاد معدة للحياة”(13) – كما يقول؟ – وما الذي منع طالب الأدب الإنجليزي من العودة إلى أبوية في الأرخبيل عام 1939م؟. وهنالك سلسلة طويلة من الأسئلة الشبيهة التي تظهر بما يدع مجالًا للشك كم في تجربة حياة باكثير ممتزجة حتى النخاع بالممارسة السياسية العالمية والإقليمية والمحلية التي كانت تحكم الشأن العام في مجتمعه وعصره.

وربما كان التجلي الأبرز للقوة السياسية المؤثرة أنذاك بتمثل التجربة الكولونيالية او الاستعمارية التي تعد المظهر الأبرز من مظاهر الحداثة الغربية إذ صاغت هذه التجربة العنيفة حيوات ثلاثة أرباع البشرية، وكانت هذه الصياغة من العمق لدرجة أن تأكيدها لم يقتصر على المجالات السياسية والاقتصادية وحدها، بل تعداه إلى المجالات الثقافية والفكرية والأيديولوجية، ومنها إلى المدارك والتصورات التي يوفر الأدب والفن والثقافة عمومًا واحدًا من أهم السبل في التعبير عنها. وقد مثلت هذه التجربة الاستعمارية السياق الحي لنمو وتبلور مصطلح “الأدب “ما بعد الكولونيالية” وهو مصطلح يستخدم لتغطية كل الظواهر الثقافية التي تأثرت بالسياق الإمبريالي منذ اللحظة الأولى للاستعمار الغربي حتى يومنا هذا.

وإذا ما حولنا النظر إلى الأديب علي أحمد باكثير من منظور النقد ما بعد الكولونيالي لوجدنا أن خطابه الأدبي والفك?ي قد تميز بتلك السمات العامة التي تميز بها الأدب المتأثر بالكولونيالية، ومن هذه السمات يمكن لنا أن نشير إلى أهمها.

1- هيمنة الخطاب السياسي:

يتميز الأدب ما بعد الكولونيالي بحضور طاغٍ للهَمِّ السياسي؛ إذ جرى توظيف معظم الأجناس الأدبية والجمالية للتعبير عن القضايا السياسية الحيوية، وتجلى ذلك في جملة من المظاهر، منها:
الاهتمام بالمكان والإزاحة عن المكان، وهو ما يعني هنا ظهور أزمة خاصة بالهوية بمعناها الواسع: الهوية الثقافية واللغوية والسياسية والتاريخية والأيديولوجية والجمالية والاهتمام بالمكان، أو استعادة علاقة فعالة بين الذات والمكان يُعَد واحدًا من أهم الاستراتيجيات الثقافية القومية الوطنية للاستعمار الأجنبي.
وهذا هو بالضبط ما فعله أديبنا في معظم أعماله الأدبية الشعرية والسردية والدرامية المسرحية عند إصداره الأوَّل “همَّام أو بلاد الأحقاف 1933مرورًا بإخناتون ونفرتيتي 1940 وعودة الفردوس” 1946 حتى ملحمة عمر الإسلامية الكبري، 1966م، ففي جميع أعماله المسرحية والروائية والشعرية وجدنا اهتمامًا واحنفاءً واضحًا بالأمكنة التاريخية المجيدة والأثيرة في الثقافة العربية الإسلامية.
يقول باكثير: “حينما بدأت بكتابة (إخناتون ونقرتيتي) كانت تسيطر عليَّ فكرة الكتابة عن العروبة في أصولها العميقة… حتى إذا صممت أعمالي كلها مجموعة واحدة، تحس بمدى الارتباط العميق بين البلاد العربية… وكنت أجد في ماضي كل بلد عربي أصول مشتركة (16).
أن المكان هنا ذو دلالات ومعان استطيقية وسياسية وسيكولوجية، إنه يرمز إلى الأرض، الأم، الوطن، الجغرافيا، البيت الحي، المدينة القرية البلد السكر، والشيء الثابت الساكن الفضاء، إلَّا أنَّ البحث عن شيء يتصف بالدوام، هومن أعمق الغرائز الإنسانية، إنه مشتق من حب الإنسان داره ورغبته في مأوي پسكن إليه من الخطر والجوع والتشرد والضعف والعجز والموت وصروف الدهر وتقلبات الزمن. والمكان هو البعد المميز للنظام السياسي. والزمان في البعد المميز للكائن الحي، وهاتان المعادلتان مرتبطتان، لأنَّ الأولى هي النتيجة الطبيعية للثانية
ويؤدي العقل السياسي لعبة التأمين، أي المكان ضد الزمان ، ومبدأ التسجيل بثبت الوجود في المکان، لأنَّ المكان هو الذي يمنح الوجود، والمكان يرمز إلى الهوية، هوية الذات الأصلية، وينبغي أن يكون في مقدور المرء على الدوام أن يجيب على أعظم سوال ديني: من أين أنت؟ فليس شخصًا مَن لا ينتسب إلى مكان، ومَن يذهب إلى أي مكان يصبح أيًّا كان”(17)، “والجغرافيا هي بنت التاريخ بمقدار ما هي أمُّه”.

ويرى إدوارد سعيد في كتابه (الثقافة والإمبريالية) أن السرد الروائي والمسرحي والقصصي هو الوسيلة التي تستخدمها الشعوب المستعمرة التأكيد هويتها الخاصة ووجود تاريخها الخاص، ولا شك أن المعركة الرئيسة العملية الإمبريالية تدور طبعًا من أجل الأرض وملكيتها وحق السيادة عليها، ومَن يملك حق استيطانيا واستثمار خيراتها.. إن موضع الرهان والمجازفة إنما هو الأراضي “الأمكنة، والممتلكات، والجغرافيا، والقوة، فكل شيء يتعلق بالتاريخ البشري متجذر طبعًا في الأرض، وهذا يعني أن علينا أن نفكر بالسكن والمعاش”(18)، هكذا يمكن القول مع “جيل دلوز” يبدأ الفن لا من اللحم أو الدم، بل من المكان، المنزل، الشارع، الحي، الإقليم، البلاد، الوطن، الشعب، الأمَّة، الشجر، الرمل، وكل تلك اللازمات الحميمة الصغيرة التي تترنم يأغنية الأرض المنتزعة من أرضها.

هكذا علينا أن نفهم ذلك الشغف المثير بالأمكنة في أدب علي أحمد باكثير، فلا تخلو قصيدة من قصائده من التغني بالأماكن التي أحبَّها، والتي يفتخر بها: الأحقاف وحضرموت وعدن ونجد والحجاز والقاهرة ومصر والنيل والشام والعراق والمدينة ومكة المكرمة وجاوا وفلسطين والقدس والكوفة والبصرة واليمن والجزائر.
ففي قصيدة (الوداع لبلاد الأحقاف) أنشد:
سأرحل من بلاد صـقت فيها تلازمني بها أبدًا شـــــــــــــــــــــــــــعوبُ
فاجتاز البحــار لأرض (جاوا) إلى حيث المقــــــــام بها يطيبُ
وأعبر (مصر) حيث العلم ال حضارة حيث يحترم الأديبُ (19)
لاحظ ذلك الحضور الكثيف للمكان: بلاد، شعوب، بحار، أرض جاوا، مصر، مقام، حضارة… إنه هنا يؤسس للإعلان عن هويته السياسية والثقافية الأدبية ويعلن عن رغبته بامتلاك موطن إقامة بديل، ولا شك بأنَّ لعبة القوي السياسي هي التي تتخفي وراء كل تلك الأفعال والانفعالات التي ظهر فيها الشاعر
ويتضح الأفق السياسي للشاعر المهاجر، بعيد وصوله القاهرة، إذ نشر قصيدة في صحيفة “البلاغ” 29/4/ 1939م جاء فيها:
أن تصبح داري “حضرموت” فإنني في (مصر) بين الأقربين سعيدُ
من أصـــــــــــــــــــــــــــــــــلهم أصلي ومن دمهم إباء صدق بيننا وجـــــــــــــــــــــــــــــــــدودُ
للدين فيك وللعــــــــــــــــــــــــــــــــــروبة معقلٌ لا يستباح ومنهل مقصودُ(20).
لا يخفى على أحد استراتيجيات الشاعر السياسية في توظيف الجغرافيا والتاريخ، المكان والزمان، من أجل إعادة بناء وترميم الهوية القومية العربية والحضارية الإسلامية الممزقة ورغبته المتقدة في استنهاضها وسردها واستعادتها.
وكما أن أيامنا ليست خارح الجغرافية ولا وراءها، فما من أحد مِنَّا في منأي تام عن الصراع حول الجغرافيا ، والصراع معقد وشيِّق، لأنه ليس صراعًا حول العسكر والمدافع وحسب بل هو أيضًا صراع حول الأفكار والأشكال والصور والتصورات.

وللمكان الواقعي والمُتخيَّل في خطاب باكتير دلالات متعددة ووظائف متنوعة جمالية وسياسية وثقافية ولغوية وتربوية وأيديولوجية ودينية وتاريخية..إلخ. وهذا ما يمكن ملاحظته في سرديات باكثير الروائية والقصصية والتمثيلية والمسرحية، ففي روايات باكثير: سلَّامة القس، وواإسلاماه، والثائر الأحمر، وليلة النهر، وسيرة شجاع، والفارس الجميل، يمكن لنا لمس ذلك النسق المتصل من الرؤية الأيديولوجية السياسية في بناء وتصوير الأمكنة بما تنطوي عليه من دلالة رمزية سياسية وتاريخية ودينية (المدينة المنورة) في سلامة القس، والبصرة والكوفة والنجف وبغداد في (الثائر الأحمر) إضافة إلى مصر والعراق، وبلاد الشام، سوريا وفلسطين والقدس، والفسطاط والنيل والفرات وبلاد السند والقادسية وعين جالوت، وغير ذلك من الأمكنة والمواقع الأثيرة(22) .

كل هذا الزخم الكثيف للأمكنة في خطاب باكثير الإبداعي لا يمكن النظر إليه إلَّا بوصفه نسقًا جوهريًّا وجزءًا أصيلًا في السردية الكبري: سردبة الهوية الثقافية الجمالية السياسية التاريخية للحضارة العربية الإسلامية التي هبَّ لصياغتها وتمثيلها هويتها الذاتية. وتأكيد وتبرير كينونتها وجدارتها واختلافها عن الآخر المستعمر.

ويري إدوارد سعيد أن الأمم هي سرديات كبرى، يُعاد بناؤها وصياغتها وتأويلها وإحياؤها باستمرار.

ومن السمات المميزة للآداب الخاضعة للهيمنة الأجنبية ميلها الشديد إلى “التقويض” وتأكيد الاختلاف، إذ إن شعوب المستعمرات استخدمت اللغة والكتابة بلغاتها المحلية للرد على المركز الامبراطوري، إذ كانت الإمبراطورية تضع صيغة قياسية للغة الميتروبوليتانية، وتعدها معيارًا للحقيقة مع تهميش جميع الصيغ الأخرى بوصفها لغات بدائية.(23)

في ضوء ذلك نفهم مدى التحدي والاستفزاز الذي مثَّله رد أستاذ الأدب الإنجليزي الساخر على الطالب علي أحمد باكثير حينها أكد هذا الأخير أن اللغة العربية قادرة على إنتاج الشعر المرسل مثلها مثل اللغة الانجليرية فكان الرد من الأستاذ الأنجليزي أن هذا مستحيل(24).

فكان باكثير عند مستوى التحدي حينها راح يجتهد لترجمة مسرحية شكسبير “روميو وجوليت” إلى اللغة العربية بالشكل الحديث. وكان يؤرخ بهذه المحاولة الرائدة بداية ميلاد الحداثة الشعرية في اللغة العربية، قد يقول قائل: لكن أين السياسة في هذه الواقعة اللغوية الأدبية الثقافية؟ في الواقع إن احتدام السياسي والسياسة هنا هو أمر بالغ الدلالة إذا ما علمنا أن اللغة هي شديدة الصلة بالسياسة ومشتبكة معها باستمرار.

يقول المفكر الفرنسي نورمان فيركلو في “الخطاب يوصفة ممارسة اجتماعية” : “إن السياسة تكمن جزئيًّا في هذه الخلافات و الصراعات التي تطير في اللغة وعلى اللغة، إذ أن الوحدات المعجمية الدلالية والتركيبية والبلاغية تُجسِّد مصالح قوى اجتماعية سياسية، فعلى المستوى المعجمي ألمح ميشيل بيشو كثيرًا إلى الصفة الصراعية للكلمات. يقول: “كل الصراع الاجتماعي يمكن أن يتلخص في الصراع من أجل كلمة ضد كلمة أخرى(25).

كما أن السيطرة على اللغة مثلت أحد الملامح الرئيسة للاضطهاد الذي مارسته الإمبراطورية الاستعمارية، ويمكن لنا أن نقرأ في الواقعة أعلاه جملة من الملامح السياسية:
1- قوة الإمبراطورية الإنجليزية التي جعلت لغتها تخصص أساسي ومرغوب في المؤسسات التعليمية في مستعمراتها.
2- أن ثمة استاذًا إنجليزيًّا وطالبًا عربيًّا شرقيًّا.
3- المنطق الإمبراطوري في رد الأستاذ على الطالب، واعتبار اللغة الإنجليزية وآدابها، هي معيار الحقيقة والصواب، أي وضعها في مرتبة أعلى من جميع اللغات الأخرى، بما في ذلك الفرنسية فما بالك بالعربية.
4- وبالمقابل شكَّل رد الطالب علي أحمد باكثير ردًّا عمليًّا ورفضًا وتقويضًا ونمطًا من أنماط المقاومة الوطنية السياسية، وإرادة قوية في أن يكون له صوت مسموع، وهوية مختلفة.

وعلى هذا يمكن الاتفاق مع بيير بورديو في أن “الكلمات والملفوظات لا تمتلك قوتها من ذاتها، بل تأتي السلطة المؤسسية على الخطاب من الخارج، كما أن اللغة تتصل بالهوية، بهوية المتعلم، هوية الذات الناطقة، إذ أن شغل مواقع الذات هو بشكل أساسي مسالة القيام أو عدم القيام بأشياء معينه تماشيًا وحقوق الخطاب وواجبات المعلمين والطلاب، التابع والمتبوع” أي ما يسمح به وينبغي أن يقوله كل واحد منهم وما لا يسمع ولا ينبغي أن يقوله داخل نمط الخطاب ذاك… إن الذات لها دلالة تشير إلى أن أحد ما يرزح تحت سلطان سلطة سياسية ومن ثم فهو سلبي ومكيف”، ومن السمات المميزة للأدب المتأثر بالاستعمار، المثاقفة أي اللهجنة، بمعنى أنه يتضمن علاقة جدلية بين المنظومات الثقافية للدول المستعمرة وبين المنظومات الثقافية للمجتمعات المحلية المستعمرة، وهذه العملية يسميها إدوارد سعيد بالمثاقة أو التعددية الثقافية، وهذا ما يمكن رؤيته في نصوص باكتير المختلفة، إذ تنطوي معظم نصوصه على مفاهيم وكلمات ومصطلحات وأفكار وأسماء وأشكال تنتهي إلى مدونات ثقافية غير عربية: إنجليزية، فرنسية، يونانية، لاتينية، دينية، مسيحية.

فضلا عن كونه تعلم اللغة الإنجليرية وأتقنها وقام بتدريسها والترجمة والكتابة بها، بالإضافة إلى اللغات الأخرى كالفرنسية والإيطالية، هكذا قد أثمرت هذه اللهجنة الثقافية والسياسة نمطًا مختلفًا من الخطاب الأدبي الثقافي العربي الإسلامي الجديد.

واذا حاولنا تتبع النسق السياسي في أدب باكثير. فيمكن لنا رؤية تلك الشبكة الهائلة من التحديات والضغوط السياسية التي واجهها الأديب منذ ستي نشاته الأولى حتى وفاته، تحديات سياسية عالية، وإمبريالية، وتحديات سياسية إقليمية عربية إسلامية، وتحديات سياسية محلية وطنية.

هذه الضغوط والتحديات يصعب الفصل بينها في الواقع، إذ هي متداخلة متشابكة في الخطاب والممارسة، إذ بدأ يتفتح وعي باكثير السياسي أوَّل مابدأ على واقع المجتمع المحلي في حضرموت، واكتسب هذا الوعي صيغة إصلاحية أخلاقية تربوية تمثلت في إصداره مجلة “التهذيب” ودعوته أبناء مجتمعه إلى الإصلاح والتغيير والانفتاح على ثقافة العصر، ونبذ الجمود والتقليد، وقد كان متاثرًا هذه الخطاب بتيار الإصلاح الديني الإسلامي عند محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا وغيرهم.

زر الذهاب إلى الأعلى