د. ناجح إبراهيم يكتب: يا قدس.. يا درب من مروا إلى السماء

من منا مسلم أو مسيحى لا يحب مدينة القدس ؟.. فيها ولد المسيح، ومنها رفع إلى السماء، ومن مسجدها الأقصى، قبلة المسلمين الأولى، ومن على الصخرة المباركة، عرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ورأى ما لم يره قبله، ولا بعده من مخلوقات الله، من البشر، والملائكة، والجن؛ تشريفا من الله سبانه وتعالى، لقدره وعلو منزلته.

القدس.. درب من مروا إلى السماء.. كانت عنوان وموضوع مقال الكاتب د. ناجح إبراهيم المنشور فى “المصرى اليوم” وجاء فى نص المقال:

كلما ضاق صدرى أحببت أن أكتب عن الرسل أو حوارييهم وأصحابهم، أو عن مكة والمدينة، أو القدس أو الصالحين، لم أتشرف يومًا بزيارة القدس الشريف إلا أننى أحبها بأعماق نفسى، وأرجو أن أنال بركة رؤيتها عينًا والعيش فيها بعض الوقت، والصلاة فى المسجد الأقصى، فتاريخ معظم الأنبياء فى القدس، فلا يوجد شارع فى القدس إلا ومر فيه نبى، ولا توجد بقعة فيها إلا وارتفعت منها صلوات نبى أو دعوات حوارى أو ولى، أو تبتل فيها عابد أو تنسك فيها زاهد.

وقد تأملت طويلًا كلمات عمر بن الخطاب الذى شرفه الله بفتح القدس سلمًا، وكأن الله أوحى لأوليائه ألا يفتحوا القدس إلا سلمًا ولا يريقوا فيها دماءً.

الخليفة العادل الفاروق كان يقول: «من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقاع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس»، ولعل هذا سر تعلق الأنبياء جميعًا بها، وعيش معظمهم فيها أو مرورهم بها أو اجتماعهم للصلاة خلف النبى محمد، وكأن الله كتب على الأنبياء جميعًا أن يطأوها وتشرف بهم ويشرفوا بها.

القدس هى المدينة الوحيدة التى اجتمع فيها الأنبياء جميعًا بلا استثناء، وكانت فيروز تردد كلمات الأخوين رحبانى الرائعة: «يا قدس يا مدينة الصلاة، عيوننا إليك ترحل كل يوم، تدور فى أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد، يا ليلة الإسراء، يا درب من مروا إلى السماء»، فالمتأمل لتاريخ القدس يدرك أنها مدينة الصلاة والعبادة حقًا، ومدينة الأنبياء والرسل، وصدق تميم البرغوثى القائل: «فى القدس أبنية حجارتها اقتباسات من الإنجيل والقرآن».

وأرى صدق عبارة عبدالله البرغوثى الذى ذهب مذهبًا جميلًا لا يُنكر عليه لقوله: «ليس بعد القدوس إلا القدس»، فهذا الاصطفاء العظيم لا يأتى من فراغ لمدينة احتضنت كل هذا العدد من الأنبياء والأولياء والصالحين.

فرض الله على الرسل العظام أمثال موسى ويوشع بن نون وغيرهما فتحها وبذل الغالى والرخيص فى ذلك.

وصدق نزار قبانى وهو يقول عن القدس: «سألت عن محمد فيك وعن يسوع، يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء، يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء، يا قدس يا منارة الشرائع، يا طفلة جميلة محروقة الأصابع، حزينة عيناك يا مدينة البتول، يا واحة ظليلة مر بها الرسول، حزينة حجارة الشوارع، حزينة مآذن الجوامع، يا قدس يا جميلة تلتف بالسواد، من يقرع الأجراس فى كنيسة القيامة، صبيحة الآحاد».

إن الناظر لتاريخ القدس سيجد أنها تعنى تاريخ الأنبياء، فمعظم سيرة إبراهيم كانت فى القدس، وكذلك سيرة سليمان وداوود، وزكريا ويحيى، ومريم وعيسى عليهم السلام.

كل البشارات التى حدثت لزكريا ومريم كانت فى القدس، لن تعرف تاريخ الأنبياء وتراه وتعيشه رأى العين إلا فى القدس ومن القدس، هى أقصر الدروب بين الأرض والسماء حقًا، وهى حلقة الوصل الكبرى بين الخلق والخالق.

وصدق تميم البرغوثى: «متى تبصر القدس العتيقة مرة، فسوف تراها العين حيث تديرها»، والقدس مرت بها كل الأمم والأجناس والألوان والأعراق، وطمع فيها التتار والصليبيون، وهُزموا هزائم منكرة رغم قوتهم وبأسهم، كل من مر بالقدس سيموت وتحيا القدس ولن يبقى فيها سوى أصل الصلاح ورجالهم.

ففى القدس بائع خضرة من جورجيا، فى القدس توراة وكهل جاء من مانهاتن، وفى القدس شرطى من الأحباش يغلق شارعًا، وفى القدس رشاش على مستوطن لم يبلغ العشرين، فى القدس هؤلاء وغيرهم ممن جاءوا من كل فج عميق وطردوا أهلها الأصليين، ولكن كما يردد البرغوثى بعد سرده لهؤلاء: «فى القدس من فى القدس إلا أنت، وتلفت التاريخ لى مبتسمًا، أظننت حقًا أن عينك سوف تخطئهم وتبصر غيرهم، ففى القدس يزداد الهلال تقوسًا مثل الجنين، حدبًا على أشباهه فوق القباب، فى القدس تنتظم القبور، كأنهن سطور تاريخ المدينة والكتاب ترابها، الكل مروا من هنا، فالقدس تقبل من أتاها كافرًا أو مؤمنا، أمرر بها وأقرأ شواهدها بكل لغات أهل الأرض، فيها الزنج والإفرنج والصقلاب والبشناق، والتتار والأتراك، أهل الله والهلاك والفقراء والملاك والفجار والنساك، فيها كل من وطئ الثرى، كانوا الهوامش فى الكتاب، فأصبحوا نص المدينة قبلنا، يا كاتب التاريخ ماذا جدَّ فاستثنيتنا».

أمة العرب هى الوحيدة التى يُراد لها ترك القدس، وهى الوحيدة التى تُطرد من القدس رغم أنها صاحبة الحق الأصيل فيها، فقد بناها اليوبوسيون العرب، ولكن الحقوق لا تعود بالكلمات، والقدس لن تسلم رايتها لأى قائد أو زعيم، القدس استثناء لم يفتحها سوى عمر الفاروق العادل، ولم يحررها سوى صلاح الدين الحكيم الرحيم.

السيوف والجيوش كثيرة ولكن لا يوجد صلاح الدين «فليس كسيف صلاح الدين سوى زند صلاح الدين وقلب صلاح الدين، ذاك العبد المفتقر إلى الله تعالى».

الحسنات العظام والفتوحات العظيمة لا يمنحها الله إلا لخواص الخواص، وصدق نزار قبانى أعظم شعراء العرب: «يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبًا».

القدس مدينة الأنبياء، وباب الأرض إلى السماء، لن ينال بركة تحريرها إلا الخواص، والشعوب التى ستحررها ستكون على نهج خاص من الطهارة والشفافية والجدية والعطاء والبذل والعلم، وكل خصال الخير الدينية والدنيوية، وصدق نزار وهو يقول:«يا صلاح الدين باعوا النسخة الأولى من القرآن، باعوا الحزن فى عينى علىّ»، يقصد على بن أبى طالب.

الأمة التى لا تُنتج دواءها وغذاءها وسلاحها ومنتجاتها الصناعية، والتى لا تعيش مع القرآن والدين بمفهومه الأول الذى طبقه النبى وصحابته، وتستورد كل شىء من الإبرة للصاروخ لن تحرر القدس.

زر الذهاب إلى الأعلى