نرجسى.. مدح أم ذم أم أعراض مرضية لحالة نفسية؟!
سردية تكتبها: أسماء خليل
عندما يصفك أحد بأنك نرجسى.. هل يجب عليك أن تغضب؟!.. وهل يمكن أن تغضب دون أن تعرف جيدا ما ينعتك به هذا الأخر؟!.. وهل بالفعل تفهم معنى الكلمة “النرجسية” ؟! وأصلها، أو اشتقاقها، وحكايتها إذا كان لها حكاية.. تغال أقول لك:
فى البداية نؤكد أن للنرجسية، أصل وحكاية.
وهى ظاهرة انكشف عنها الغطاء بالسنوات القليلة الماضية، ولكن ما يدعو للعجب حقًّا؛ هو استمرار مناقشتها وطرح تفسيرات لأسبابها وأهدافها وعلاجها (حال تحولها إلى ظاهرة مرضية) حتى الآن!.. وإذا كان اللغز يظل مُحيرًا حتى ينكشف حله ومكنونه؛ فهل لم يتم استيفاء تلك الظاهرة حتى الآن؟!..
يبدو أن المعنى ما يزال بحاجة إلى فك شفراته، فما برح المتحدثون عن النرجسية يكشفون الجديد كل يوم لجوانبها المُتعددة، وما برح “جوجل” يقر أن كلمة “النرجسية” هي الأكثر بحثًا على “جوجل”، وطالما أن العلاج ما زال مطلوبا بالأسواق؛ فذلك دلالة علي وجود المرض متغلغلًا بجنبات المجتمع، فما إن أوضح أخصائيون علم النفس الأعراض، وكأنهم أزاحوا غطاء فوهة الزجاجة، لينطلق متطايرًا الكثير من الشكاوى عن ذويهم ليتضح أن هناك عددًا مهولًا من المتألمين بسبب من حولهم المصابين بذلك الاضطراب النفسي..
كيف نشأت النرجسية؟.. وكيف تطورت عبر التاريخ؟..وما الغريب عنها؟!.. ولماذا لم يتم مناقشتها سوى بالآونة الأخيرة؟!..
نشأة مفهوم النرجسية
من الخطأ أن ننسب الحكاية الشهيرة المنسوبة لتعريف النرجسية، أنها أساس النرجسية ومنها نشأت، ولكن الحكاية فقط أظهرت المعنى على السطح، فالنرجسية موجودة منذ نشأة الإنسان على الأرض، وكأن مَن يشتكون ظلوا لسنوات يُشيرون فقط ولا يستطيعون التعبير؛ لأنهم لا يعرفون مسمى لذلك الشيء، أو لكثرة المُسميات التي اختلطت داخلهم فلم يستطيعوا تحديد المفهوم المناسب..
الحكاية الشهيرة للَنرجسية
تُعد القصة اليونانية الشهيرة، هي التفسير الوحيد الذي ذكره المحللون حول ذلك المصطلح؛ فيُحكى أنه كان هناك شاب اسمه “ناركيسوس” أو “نارسيس”، وكان يعمل صيادًا، وقد أعدوه ابنًا للإله “إله النار كيفيسيا” ، وكان ذلك الشاب جميلًا جمالًا أخاذًا لدرجة السحر، وكأن محل إعجاب بل وفتنة كل فتاة تراه، وذُكر أن الرجال أيضًا سُحِروا به لشدة جماله، حتى أن الحوريات وقعن في حبه لوجهه الساحر، لكن الشاب نارسيس كان نرجسيًّا لدرجة أنه لم يحب أحدًا غير نفسه، ولم يدر ظهره لأي بنت أو حورية وقعت في حبه، وكان داخله استحقاق بالأفضلية والأحقية من غيره بما هو فيه، وسيطر على فكره الأنانية وعدم الإحساس بالآخر، وذات يوم رأت “الإلهة نمسيس” تعجرف ونرجسية نارسيس فصحبته إلى بحيرة وألقت عليه لعنة، هذه اللعنة جعلته يشعر بالعطش ويذهب للشرب من تلك البحيرة ومن ثم رأى انعكاس وجهه في الماء وسحر بوجهه الجميل، ولم يبرح مكانه بل ظل هنالك إلى أن مات، ثم نما في ذلك المكان زهرة أسموها “زهرة النرجس”.
قابيل نرجسي
وبالتحليل بشكل أعمق؛ نجد ان سيجموند فرويد بنظرياته االسيكولوجية لم يكن هو الأسبق بها، ولكن النرجسية متأصلة المنشأ، فمن لا يعرف قصة “قابيل وهابيل”، حينما أنجبت حواء قابيل وأخته التوأم أَقْلِيمَا في الجنة، ثم حينما نزلت الأرض أنجبت هابيل وأخته التوأم لُبودا، أمر الله – سبحانه وتعالى – لقابيل ان يتزوج لبودا، وهابيل أخته أقليما، حيث شرع الله في البداية بأحلية زواج الأخ من أخته ولكن ليست التوأم له؛ لم يرضَ قابيل بتلك القسمة لأن إقليما كانت أجمل من لبودا، ونظر إلى ما منح الله أخيه، وبدأ الشعور بالاستحقاق يظهر على مرأى ومسمع من أسرته، وقال له “لأقتلنّك كي لا تنكح أختي”، إنه نفس التفسير الذي فسره فرويد وعلماء النفس، ربما يفضل النرجسي موت صاحبه عن حصوله على ما كان يرغب بامتلاكه.
اقرأ أيضا:
-
«السباحتان» فيلم يحكى قصة الأختين ناتالي ومنال عيسى.. فن البقاء على قيد الحياة
-
شاهد الننى وهو يرتل آيات من القرآن بصوته
كما كان قابيل حاسدا أخيه لأنه كان موفور الجسم والعقل، ولديه سداد وحكمة، وحينما احتار آدم – عليه السلام – في أمرهما، اقترح تقديم قربانا من كلاهما لله تعالى، ومن يتقبل منه يتزوج الفتاة الجميلة، فتُقُبِلَ من هابيل ولم يتقبل من قابيل، ولأن هابيل كان صالحا ويرضى ربه وما قسمه له ويطيعه بشكل دائم؛ فاشتعلت نار الحسد والغيرة والحقد في قلب قابيل، فقتل أخيه وما دفعه هو أنه يشعر من داخله أنه منفرد مُستحق للنعم بلا منازع.. إنها النرجسية.
النرجسية للملوك عبر التاريخ
إنه الغريب عن النرجسية والنرجسيين، فمنذ القدم وهي متأصلة، فقد قام “فرعون” بقتل المواليد الذكور للعبرانيين، وذلك العمل نرجسي بحت يدل على الغيرة و الحقد، ولم يعنيه حينها أن يُذكر شعبه بيوم من الأيام بأى سوء، فرغم كل التقدم الذي بلغه الفراعنة في المناحي الثقافية والاقتصادية والسياسية والطب و الهندسة و الفلك و العلوم، إلا أنه يقوم بمثل تلك الأفعال مرورًا بتكبره وحظ نفسه حينما أتاه موسى – عليه السلام- فقد كان يعتقد أنه إله على الأرض،،
حامل المرحاض
هل يصل إلى ذهنك أن النرجسية بما تحمله من عدم الإحساس بالآخر والأنانية والاستئثار بالرأي المصائب للنفس فقط؛ تصل ببعض الملوك بأن يُوظف بعض البشر بوظيفة متدنية جدا، وهي حمل “مرحاض متنقل” له ولكل مسؤول موظف يتم تعيينه إجباريًّا!.. إنه الملك هنري الثامن أحد الملوك المجانين الذين حكموا انجلترا ، ويذكر أنه والد الملكة المعروفة اليزابيث الأولى، وقد ظل العمل بتلك الوظيفة ٤٠٠ عاما..
في عام 1651 حكم الملك تشارلز الثاني إنجلترا، وكانت له تصرفات نرجسية أيصا، فقد كان يهوى التحدث عنه بأنه قاهر قلوب النساء، وكان يشعر بالفخر الشديد حينما تحبه إحداهن، وكلما صاحب عشيقة كان يقطع خصلة من خصلات شعرها، ثم يقوم بتجميعهم في مجموعة واحدة وعرضها بالحانات؛ ليعرف الجميع أنه معشوق النساء وألا توجد فتاة أو امرأة تقاوم جماله وفتنته.
تلك بعض الأمثلة القليلة جدا، وحكايات النرجسية كثيرة لا حصر لها.. مرورا بسابق التاريخ وصولا ل“ترامب” الرئيس الأمريكي السابق والسوشيال ميديا، ونرجسيته المتزايدة يوما بعد يوم….. إلخ.
هل النرجسية باقية
في عام 1979، كتب “كريستوفر لاش”، أستاذ التاريخ في جامعة “روتشستر”، كتابًا بعنوان “ثقافة النرجسية”، وصفها وناقشها واهتم بتحليلها، وأهم ما أثبته أن النرجسية تتضاعف على مر الزمن كظاهرة وأشخاص وتبعات وتأثير في الآخرين، وكانت من أهم آرائه أن علم النفس ليس منفصلا عن الواقع؛ ولذلك ضاعفوا الأبحاث حول النرجسية، وفي عام 1980أضافوا كثيرا من الاضطرابات المتعلقة بها، وقد خلصت جميع أبحاثهم أن النرجسية في تصاعد مستمر وكبير مع تقدم الأجيال، إلى الدرجة التي يجب علينا التفكير فيها باعتبارها وباءً عامًّا..
وكذلك معدلات النرجسية التي قِيست على مرور السنوات في تصاعد مستمر منذ البداية وإلى وقت نشر الكتاب، كما وصفوا الجيل الذي وُلد في تلك المرحلة بين 1980-1996، بأنه الأكثر نرجسية وذلك بناءً على هذه النتائج، كما قاموا بإجراء بحث على عينة كبيرة جدا من الأشخاص بمختلف الأعمار، فكانت النسبة التي وافقت على جملة “أنا مهم جدا” كبيرة جدا وفي تزايد، ووجدوا أن النسب قد ارتفعت 12% من عام 1963 إلى 77% عام 1991 .