د. قاسم المحبشى يكتب: في معنى الاحتفال بتعاقب الأعوام (1من3)

من لغز الزمان والحياة والموت، يمكن لنا فهم معنى ظاهرة الاحتفالات بتعاقب الأعوام عند الشعوب بمختلف ثقافاتها وعقائدها.

إذ يحتفلون بحياتهم أما الأموات فلا يحتفلون أبدا ولا توجد جماعة بشرية على هذا الكوكب السابح بين الأفلاك لا تحتفل في كل زمان ومكان بغض النظر عن نوع ذلك الاحتفال بالولادة والزواج والحصاد وتعاقب الأيام والأحداث التاريخية والحروب والانتصارات والثورات وغيرها.

إذ تعد الاحتفالات السنوية من الظواهر الاجتماعية التي رافقت حياة الإنسان منذ ما قبل التاريخ، بوصفها انزياحا سوسيولوجيا وسيكولوجيا عن السياق الاجتماعي الروتيني للحياة اليومية للشعوب؛ انزياح يتم التعبير عنه بتنويعات شتى من الأفعال والتفاعلات والعلاقات والممارسات والقيم والرموز .

فكل جماعة أو تجمع أو شعب من شعوب الأرض يمارس الاحتفال بوصفه تأكيدا للوجود والحضور وتعبيرا عن الفرح والسعادة بالحياة وإنجازاتها وتجديدا للطاقة وتحفيزا للأمل بالمستقبل.

فالأحياء هم الذين يحتفلون بحياتهم دائما حتى وإن بدوا إنهم يحتفلون بأمواتهم.

وفي الأزمنة القديمة ما قبل التاريخ كان الناس يحتفلون بأنفسهم وبأعيادهم في سياق أسطوري شديد الالتصاق بالطبيعة وتقلباتها ومواسمها، وكانت أعظم الاحتفالات عند الشعوب القديمة هي احتفالات بالمطر والزرع والثمر وبحصاد الثمار نهاية كل عام وتوقعاتهم بما سوف تجود به السماء والأرض في قادم الأيام.

كانت الثقافة المصرية القديمة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنهر النيل، ويبدو أن عامهم الجديد يتوافق مع الفيضان السنوي، وفقًا للكاتب الروماني Censorinus، وكان التنبؤ بالعام الجديد مرتبطا بنجم “الشعرى اليمانية” ألمع نجم فى سماء الليل، إذ يبدأ العام عندما يكون مرئيًا لأول مرة بعد غياب 70 يومًا.

وتحدث هذه الظاهرة عادة في منتصف يوليو قبل الغمر السنوي لنهر النيل، مما يساعد على ضمان بقاء الأراضي الزراعية خصبة للعام المقبل.

واحتفل المصريون بهذه البداية الجديدة بمهرجان يُعرف باسم Wepet Renpet، والذي يعنى “افتتاح العام”، وكان يُنظر إلى العام الجديد على أنه وقت ولادة جديدة وتجديد الشباب، وتم تكريمه بالأعياد والطقوس الدينية الخاصة” (ينظر، بسنت جميل، اليوم السابع ، السبت، 02 يناير 2021 06:00).

وكانت الشعوب القديمة في منطقة بلاد الرافدين وسوريا، تحتفل بحسب دورة الطبيعة، بأعياد الحصاد والزرع.

إذ كان عيد أكيتو في الحضارة البابلية، عيداً للزرع وتحضير التربة للبذور والسقي، وإذ كان يعتقد أن عودة الربيع تعني صعود الإله دموزي من عالم الأموات، وعودته إلى الحياة، كما تعود البذور إلى الحياة من جديد بحلول الربيع وتجدد الطبيعة” وكما هي الحال مع أعياد الربيع الأخرى، مثل النيروز لدى الإيرانيين والأكراد، وشم النسيم لدى المصريين.

ويحفظ الأشوريون والكلدان والسريان تقاليد الحضارات البابلية والسومرية والأكادية والكلدانية القديمة” إذّاك لم يكن الناس اصحاب عقلية تاريخية لأن الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، لا يحدثهم عن التاريخ ولكنه يحدثهم عن الطبيعة، وهذا ما تنبأ عنه أعيادهم الاحتفالية الموسمية.

كانت أياما لم يسجلها التاريخ، بل هي أيام السنة الزراعية التي تتعاقب في كل عام وهذا يصدق على ما قاله المؤرخ الانجليزي (أدوار كار): “يبدأ التاريخ حين يبدأ الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعية – دورة الفصول، وآماد الحياة البشرية، وإنما بوصفه سلسلة من الأحداث المحددة التي ينخرط الناس فيها ويؤثرون فيها بصورة واعية”.

أو كما عبر ايكهارات “التاريخ هو انقطاع مع الطبيعة يحدث استيقاظا للوعي” وهذا ما يراه “اريك فروم” في كتابه “الخوف من الحرية” بقوله: بدأ التاريخ الاجتماعي للإنسان ببزوغه من حالة التوحد مع العالم الطبيعي إلى وعيه بنفسه كذاتية منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به).

ويرى شبنجلر أن كلمة “الزمان لا معنى لها عند الرجل الفطري، فهو يحيا دون أن يكون في حاجة إلى إدراك الزمان، لأن كل إدراك إنما ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المعارضة، بين شي بشي، ومثل هذا الشعور لا مجال لوجوده عند الفطري، لأنه لا يزال يتصور الوجود على أنه تاريخ ولم يتصوره بعد بعده طبيعة.

ولكن ليس معنى هذا أن الفطري ليس له زمان، كلا، أن له زمان ولكن ليس لديه شعور بهذا الزمان” غير أن الأمر المختلف في هذه الظاهرة الاجتماعية التاريخية المستمرة بتنويعاتها المختلفة عند بني الإنسان هو مدى وعيهم بالزمان بوصفه تاريخاً، والتاريخ هو انقطاع عن الطبيعة يحدث استيقاظا للوعي.

مع تبلور الوعي التاريخى بسيرورة الحياة بالزمان، بأبعاده الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل، إي الذاكرة والوعي والخيال، بدأ التفكير بتوقيت الزمن وتحديده وتقسيمه إلى لحظات وساعات وأياما وأعواما وعقودا وقرونا.

بصيغ مختلف عند الشعوب والأقوام والحضارات، إذ يختلف التقويم عند الصينيين عن التقويم الإسلامي والتقويم اللاتيني.

ويرى خزعل الماجدي أن “عيد رأس السنة من الأعياد الحديثة التي يحتفل بها جميع الناس في الكرة الأرضية، وهو من الأعياد غير الدينية، حيث يفرح الناس بالسنة الجديدة، ويقيموا الاحتفالات في ليلة 31 ديسمبر، وأول يوم في التقويم الجريجوري، والذي يحل في 1 يناير مع الألعاب النارية والتي تبدأ من منتصف الليل حيث تبدأ السنة الجديدة” ( ينظر، خزعل الماجدي، عيد رأس السنة لا علاقة له بالديانة المسيحية، صفحته بالفيسبوك).

ويكشف تاريخ الأنثروبولوجيا الثقافية أن معظم الشعوب البدائية والحديثة تحتفل بتعاقب الأعوام بإشكال مختلفة ولكنها متشابهة في وظائفها السوسيولوجيا الأساسية، فوظائف الاحتفال هي ذاتها عند بني الانسان إذ تشبع لديهم حاجات حيوية، لكسر الروتيني وتغيير النمط وسعادة الإنجاز وتوقع المستقبل، والقياس والتقويم المقارن بين ما قبل وما بعد؟ ماذا تحقق في العام الذي مضى وماذا يمكننا تحقيقه في العام الجديد؟ ولما كان الانسان كائناً زمنياً، فان التفكير في التاريخ جزء من انشغالاته، وكل نظرة في التاريخ تظهر موقف الانسان من الزمان فالإنسان هو الكائن الزماني الوحيد، لإنه مفطور على حاستي الذاكرة والتوقع، اذ انه ينظم حياته داخل شبكة نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل.

هذا الحس الزماني يرجع الى الحضارات البدائية، قال الشاعر (جون دن): “الكائنات ذوات الطبيعة الأدنى أسيرة الحاضر أما الإنسان فكائن مستقبلي”.

ومن السخف النظر إلى احتفالات الشعوب المسيحية بوصفها مجرد احتفادا دينيا وشجرة ميلاد وبابا نويل وكريسمس وشرب خمر أو غير ذلك من الرموز التي ترافق الاحتفالات بتبدل السنين الميلادية.

إذ أن كل تلك الرموز والعناصر هي جزء من الباراديم الكلي للاحتفال الذي يعني أكثر منها بالتأكيد.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى