د. ناجح إبراهيم يكتب: د. أبوليلة مترجم القرآن.. وداعاً
رحل د. أبوليلة مترجم القرآن، أهم مَن ترجم معانى القرآن إلى الإنجليزية، وأبرز علماء الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية، وأهم عالم عربى ومصرى فى مقارنة الأديان، وكتب الدكتور ناجح إبراهيم مقال بعنوان “د. أبوليلة مترجم القرآن.. وداعاً” المنشور في جريدة “الوطن” اليوم الثلاثاء.
يعد أهم مَن ترجم معانى القرآن إلى الإنجليزية، وأبرز علماء الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية، وأهم عالم عربى ومصرى فى مقارنة الأديان، وأفضل من مد جسور التواصل بين الشرق والغرب فى مجال الدراسات الإسلامية، وأسلم على يديه الآلاف فى أوروبا، وصاحب الفضل الأكبر فى إنشاء أقسام الدراسات الإسلامية والقانونية بالإنجليزية فى جامعة الأزهر، وأحد المؤسسين البارزين لكلية اللغات والترجمة.
قضى ثمانى سنوات لدراسة الدكتوراه فى كلية الدراسات الإنسانية جامعة إكستر ببريطانيا بعنوان «المسيحية دراسة مقارنة» سنة 1984، ولم ينجح وقتها فى هذا القسم أى دارس من الخارج سواه وزوجته، وناقش رسالته أكبر علماء بريطانيا وأوروبا ومنهم مونتجمرى وات.
يحكى عن نفسه: «لم يخطر ببالى أن أدرس بالغرب حتى أعلن عن بعثات أزهرية للخارج فقابلنى الشيخ محمد الغزالى، وقال لى: أنت عقلية متفتحة وعليك أن تذهب لهذه البعثة، ولو كنت شاباً مثلك لذهبت لتعلم اللغات الأجنبية»، وكرر عليه مثل هذا القول د. البهى الخولى، حدثت له عراقيل كثيرة اجتازها بإصرار حتى سافر للبعثة.
نشأ صاحبنا فى قرية أبوالغيط بالقليوبية، وهى واحدة من سبع قرى أنشأها السلطان سليمان القانونى كأوقاف ينفق من ريعها على كسوة الكعبة، وكان السلطان يفخر بإنشائها.
كان جده ناظراً لأوقاف القرية ومن القلائل الذين يحفظون القرآن والأحاديث فيها وكان ميسوراً ورغم ذلك أراد إخراجه من التعليم ليتفرغ لزراعة الأرض، ولكن الطفل العبقرى ظل يبكى كل يوم، حتى تسلل خلسة وقدم أوراقه للأزهر ونجح وأظهر تفوقاً فى أيام الدراسة الأولى فأقنع الأساتذة والده بعدم حرمانه من أمله العظيم، وكان الأزهر وقتها حلماً لطلاب العلم.
كان رحمه الله يرى فضل الكتاتيب قديماً على القرآن واللغة، فقد خرَّجت كل مفكرى مصر العظام خاصة مع ندرة المدارس، فقد كان هناك 20 كُتَّاباً مقابل مدرسة واحدة.
كان شاعراً مفطوراً منذ الثانوية وكان يطلق عليه فى الجامعة «شاعر الأزهر».
تتلمذ على يد «العقاد» وأحبَّه، وكان يردد: «العقاد اخترق عقلى، وأشعر حتى اليوم أننى تلميذ للعقاد»، ويرى أن العقاد نصر الإسلام، وكان دوماً يحكى نقطة تحول «العقاد» نحو نصرة الإسلام، وذلك حينما استمع إلى مفكر سياسى يهاجم الرسول والإسلام فى محفل سياسى، فبكى «العقاد» يومها فى صمت فتحول ليكون محامى العباقرة الأول.
كان رحمة الله المترجم الرئيسى لكل المؤتمرات الدولية التى شارك فيها الأزهر وشيوخه، خاصة الشيخ جاد الحق، وكان مع تلاميذه يسهرون ليالى متواصلة، وكان يردد: رفضت تقاضى أى مبلغ من المشيخة ولم يصدر لى شيك واحد بأى مبلغ منها، وكان يثنى كثيراً على الشيخ جاد الحق الذى رافقه فى المؤتمر العالمى للسكان، حيث رغب المؤتمر فى تقنين الشذوذ وحقوق الشواذ فتصدى الشيخ لذلك، وقال وقتها لـ«مبارك»: «سيادة الرئيس ستكون للأزهر غضبة إن مرت هذه القرارات».
وكان يقول: «الشيخ جاد الحق مات فى نفس الشقة البسيطة التى عاش فيها وهو طالب وكان رمزاً للزهد والتعفف».
كان «أبوليلة» رئيساً لوفد اتحاد الطلاب المصريين للأردن سنة 1969 لدعم القضية الفلسطينية.
وكان رئيساً لوفد اتحاد طلاب مصر إلى يوغسلافيا، ولما علموا أنه أزهرى طلب أستاذ للفلسفة الشيوعية مناظرته فهزم الأستاذ حتى ثار وقال: نحن نعطيكم السلاح، لا بد أن تكونوا شيوعيين مثلنا، فرد عليه، وحينما عاد عاتبه شعراوى جمعة، فقال له: «أنتم تعلمون أننى أزهرى ولن أبيع دينى»، فقال له «شعراوى»: «لا عليك وأنا سعيد بما فعلت»، فما زال يحفظها له طوال حياته.
حاضر فى معظم جامعات أوروبا والمراكز الإسلامية بها وبأمريكا، ومثَّل الأزهر فى معظم المؤتمرات والندوات العالمية، وساهم فى تأسيس المركز الإسلامى فى جنوب غرب بريطانيا، وأنشأ به مدرسة للعربية، ودرَّس بأكاديمية الملك فهد بلندن، وأسس مدرسة للعربية بغرفة التجارة بلندن.
له عشرات الكتب بالعربية والإنجليزية.
مذهب حياته يلخصه فى أبياته التالية:
من ذاق نور الله فى عليائه… أتراه يرضى قلبه بفطام
أنا عاشق للنور سكران الرؤى… مفتونها فليقتصد لوامى
بعت الحياة فلا أهيم بحبها… وحبست فى ذات الإله غرامى
كان سنياً صوفياً صالحاً ورعاً، وتلميذاً نجيباً لأهم عالم سنى صوفى وهو الشيخ محمد زكى إبراهيم، رائد العشيرة المحمدية، التى لم تأت صوفية مصر بمثله، وقد ترجم د. محمد أبوليلة كتاب «المنقذ من الضلال» للغزالى وكتاب «العلم» له أيضاً.
لم ينل حظاً يليق به من تكريم الدولة المصرية مع أن «القمنى»، شتام الرسول وسارق الأبحاث، حصل على «التقديرية»، ولم تكرمه الحركات الإسلامية، ولم ترفعه أو تتعلم منه أو تحيى ذكراه بما يستحق، وقدمت عليه بعض الوعاظ الذين يدغدغون العواطف.
وقد كان د. أبوليلة يدعو دائماً إلى اعتماد الخطاب الدينى على التحليل والفكرة، وأن يكون متسقاً مع الخطاب الإنسانى، وكان يرفض ترجمة أى كتاب لا يحمل فكرة جيدة تصلح لتصديرها للعالم الغربى، ويرفض رص الكلام رصاً ويعتبره جعجعة فارغة.
سلام على د. محمد أبوليلة فى الصالحين وفى عليين.