د. عادل القليعي يكتب: أوهام الكهف بين أفلاطون وفرنسيس بيكون

رؤية نقدية لواقعنا الفكري المعاصر

من باب رؤيتنا التجديدية وتوظيف موروثنا الفكري والثقافي الذي أفنى أسلافنا أعمارهم من أجل أن يصل إلينا لنفيد به واقعنا المعاصر، خصوصا واقعنا الذي يعج بالعديد من الأزمات الفكرية والقطائع المعرفية بين شتى التيارات الفكرية، لذا سأحاول قدر استطاعتي توظيف فكر هذين العلمين البارزين اللذين تركا علامات مضيئة أثرت الفكر الإنساني على مر عصوره.

نعم حالنا الآن، طبعا جد لا أعمم الأحكام ولا أطلقها على عواهنها، وإنما واقع نحياه ونراه رؤيا العين، فواقعنا الفكري الثقافي كالذي ينظر فى المرآة لا يرى الحقيقة كاملة ، المرآة إذا تساقطت عليها حبيبات المطر ، أو بخار الماء أو أصابها أي شيئ من عوامل الطبيعة وتغيرات المناخ لابد أن تزيح عنها ما علق بها أو أصاب سطحها حتى تستطيع أن ترى خلالها أو من خلالها ، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمأن ماءا حتى إذا حاءه لم يجده شيئا ، مثله كمثل من يسير في شبورة ، فتكون رؤياه ضبابية مشوشة لا يرى إلا إذا أوقد مصباحا شديد الإضاءة.

هكذا أوهام المحدثات ، وأوهام الفكر أو بمعنى أدق أوهام المنسوبين إلى الفكر ، فهناك من يفكر تفكيرا سطحيا ظاهريا في قضية ما ، لا يرى الحقيقة كاملة كالحسيين الذين يركنون ركونا تاما إلى الحواس فتخدعهم حواسهم فلا يدركون سوي جزء من الحقيقة أو كالذي يعتمد على العقل في ما يقدمه لكن هل تأمن وتطمئن أن ما يقدمه العقل سيفي بالغرض ، فهل يستطيع العقل النفاذ إلى العالم الآخر الماورائي الميتافيزيقي للكشف عن كنهه ، سيقحم نفسه في مجاهيل ومغاليق لا يثبت أمامها وقد يصاب بالأرق والمرض النفسي.

أو كالذي يعتمد الحدس بنوعيه ، الحدس العقلي ، والحدس القلبي طريقا للإدراك ، لكن هل هذه الحدوسات تتأتى للجميع ، وحتى لأصحابها ما الضامن لنا أن ما يقدمونه لنا من مدركات يرقى إلى فهمنا وما الذي يضمن لهم ألا يتهموا بالخرافات والخزعبلات والدروشة.

وهذا ما عبر عنه أفلاطون في أسطورة الكهف وفرانسيس بيكون في أوهام الكهف، خداع الذات ، الذات المدركة أو الدراكة والموضوع محل الإدراك.

فالمرء بطبيعته وفطرته يرى أنه دوما على حق وآراؤه صائبة وإذا ما ناقشته يصر على موقفه وعلى رأيه ، على الرغم أن معظم الحضور يخطئونه إلا إنه يصر ويستكبر استكبارا ، فمثل هذا كمثل حبيس أفكاره وحبيس وهمه كمن يعيش في كهف مظلم ظهره للباب ووجهه للحائط ويديه وقدميه مكبلين بالاغلال ، حواسه مشوشة لا ترى إلا ظلال الأشياء ، وشبه الحقيقة وإذا ما فكت قيوده وفاق أو استفاق من أوهامه وخرج من سجن أفكاره يرى الأمر مختلفا.

وهذا ما نشاهده الآن في عصرنا من كثرة تيارات فكرية واتجاهات مختلفة ، فنجد العلمانيون يتشبثون بفكرهم ولا يقبلون سواه ويحاولون جهدهم أن يتصدروا المشهد الفكري وأنه ضرورة ملحة فصل الدين عن الأخلاق ، وكذلك نجد اليساريون والاشتراكيون والليبراليون والاسلاميون الكل يسعى لبسط هيمنته وبسط نفوذه الفكري والانتصار لمذهبه وهذه في نظري ظاهرة حيوية ، بمعني أن في ذلك إثراء للفكر وإعمال للعقل، لكن هذه الحيوية والحركية والاستمرارية لابد من ترويضها وتهذيبها ، كيف يكون ذلك ، الرأي عندي عن طريق عدم القطيعة المعرفية – فما أصاب الفكر بالركود والتحجر إلا من خلال القطيعة المعرفية والاستغلاق المعرفي والتشبث بالآراء، -كما حدث في العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية من قطيعة معرفية من علماء الدين للفلاسفة بمعني- لابد من جلوس كل الأطراف على طاولة فكرية ثقافية منزوعة الأنانية والصراعية، هدفها إثراء الفكر ، الكل يعرض سلعته وبضاعته ويزنها الجميع بميزان العقل فإذا ما توافق عليها الجميع نقبل معطياتها – وإن كنت أشك في مسألة التوافقية هذه ، لكن هي محاولة.

وإذا ما تعارضوا لا ينهر كل منهم الآخر ولا تقلب الطاولة على رؤوسهم وإنما نعاود كرة الحوار مرات ومرات لعلنا نجد بصيص أمل للاتفاق.

في هذه الحالة سنرقى فكريا وثقافيا وحضاريا.

وهذا دور كل مفكر حقيقي مهموم بالقضايا الفكرية ومهموم بالنهوض بواقعنا الثقافي المعاصر عن طريق للتقريب بين الآراء ووجهات النظر دونما إفراط أو تفريط ، وهذه هى الوسطية المنشودة المرجوة.

بقلم أد: عادل القليعي
أستاذ الفلسفة الإسلامية
بآداب حلوان

زر الذهاب إلى الأعلى