عاطف عبد الغنى يكتب: المثقف العربى بين «الثنك تانك ومعمل الطرشى»
من وصف وتسمية “الربيع العربى” نبدأ، فنؤكد أنه وصفا مستوردا وليس عربيا، شأنه شأن كثير جدا من السلع التى نستوردها من الغرب وتقتصر علاقتنا بها على الاستخدام فقط، والمباهاة باقتنائها، مباهاة العاجز الذى يتوهم أنه امتلك القدرة، وهو أبعد ما يكون عنها.
وأول ما صادفنى المصطلح بتركيبته المغرية (ربيع.. عربى)، واتذكر أن هذا كان قبل هبات ديسمبر 2010 فى تونس، ويناير 2011 فى مصر، وماتلاهما فى سوريا، واليمن، والمحاولات الموؤدة الأخرى فى بعض الدول العربية الأخرى، شدنى الوصف والتسمية التى وردت وقتها فى مقال تقريرى للباحث الذى تخلى عن جنسيته المصرية ليكتسب الجنسية الألمانية المدعو عمرو حمزاوى، مدير برنامج الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيجي واشنطن، هذا “الثنك تانك” الذى لعب دورا خطير استمر لسنوات باتجاه تحفيز وتثوير النخب العربية بأطيافها المختلفة، لخلق إدراك عام بحتمية وضرورة التغيير، وقدوم أوانه.
واكتشفت فيما بعد أن المصطلح أقدم مما أظن، وأن أول استخدامه كان فى نهاية الستينيات حين أطلقه الغرب على تمرد “الكسندر دوبتشيك” فى “تشيكوسلوفكيا” أحدى دول المعسكر الشيوعى آنذاك، وأطلق عليها “ربيع براغ” ، وكان الغرب ضليع فى أحداثها، ومرة أخرى عاد المصطلح للظهور فى الثورات الملونة التى هبت فى الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفيتى وأطلق عليها الغرب أيضا “ربيع أوروبا الشرقية”.
وفى كل الحالات كان يعكس المصطلح ذهنية شعوب تعانى الموات والظلام خلال فصلى الشتاء والخريف، وتدخل في سبات عميق قبل أن تستيقظ فى الربيع فصل الحياة بالنسبة لها، وهى نفس المعانى التى حاولوا تصديرها للشعوب العربية، فى أحدث الهبات المهندسة فى معامل “الثنك تانكس”.
ولأنهم من هواة المصطلحات الرنانة التى تطلق العنان لعمل المشاعر، فقد ظهرت إلى جانب الربيع مصطلحات أخرى، أكثر فجاجة مثل “الفوضى الخلاقة”، والتى شبهوا فيها هبات الشعوب بالانفجار الذى يتولد عنه حياة، نسبة إلى نظرية الخلق الذى نتج عن انفجار كونى عظيم، “بيج بانج”.
ومن وجهة نظرنا أن ما حدث لا يعدو عن مخطط طبخه طهاة مهرة فى مطابخ فاخرة يطلق عليها “ثنك تانكس”، ويسيطر علي فكرهم (الطهاة) – كما سلف وبيّنا فى مقالات عديدة – منطلقات الفكر الصهيونى التلمودى، الذى يخدم فى حاله ومآله المشروع الصهيونى الدينى، والسياسى، الأقليمى، والعالمى، ولا تستهن بهذا الحكم.
قوام الطبخة “لحم نتن” تغطى نتانته كثير من البهارات لتستوعبه موائد الجوعى، وفى حالتنا كان الجوعى،هى الشعوب العربية، التى تقودها فى الغالب نخب مؤدلجة ممن يطلق عليها اليسار واليمين الليبرالى، أو المتأسلمين، والفصيل الأول مبهور إلى حد الانسحاق بالنموذج الغربى، أما الثانى فيهادن الغرب على طريقة “الحرب خدعة” عن وهم من يستقوى ببلطجى حتى يوصله لمراده، ومراده السلطة.
أما دور “الثنك تانكس” فى منظومة السياسية المؤسساتية فى الغرب فهو رسم الخطط وتنفيذ ما يخصه منها، وهو غزو العقول، وقيادة عملية التغيير، وفى طبخة الربيع العربى المسمومة، قامت هذه المراكز بحرث الأرض العربية، ووضع بذور الثورات، والانقلابات، واستدعاء لغة المشاعر من خلال شعارات ومسميات درامية مثل “ثورة الياسمين” فى تونس، و “ثورة اللوتس” فى مصر وعبارات أخرى رفعها الجواسيس، فى ميادين وعواصم العرب الثائرة.
وما أردت من استدعاء هذا الماضى إلا خدمة الحاضر ومن هنا أسأل لماذا لا نملك مراكز تفكير “ثنك تانكس” تشتبك مع تلك الغربية، وتعطل عملها بالكشف عن مؤامراتها؟!.
وفى بلادنا مراكز بحث لاشك، أو شىء شبيه بهذا لكنها للأسف فقيرة، مشغولة طول الوقت بالبحث عن من يمولها، ومن يفعل غالبا ما تتبنى وجهة نظره وقضاياه وتوجهاته، وإذا أردت المقارنة، فكأنك تقارن بين مصنع آلى لإنتاج المخللات، ومعمل طرشى تحت “بير سلم” فى أحدى العشوئيات.. والمنتج فى النهاية مخلالات أو “طرشى”، لكن مدخلات الإنتاج، وجودة الصنعة فى الشكل، والطعم والرائحة بالتأكيد مختلفة تماما.
ومع الاعتذار عن تشبيه الفكر بـ”الطرشى” إلا أنه فى حالتنا طبق طعام مطلوب بشدة على موائد طهاة الحروب والصراعات الدولية.
وللأسف تقبل النخب العربية على هذا “الصنف” من الطعام الفكرى، وتبتلعه ثم تتقيأه أحاديث وكتابات، تشبها بمصدره حين تقدمه لمجتمعاتها العربية، بعد أعادة تدويره، وقد لصقت عليها “بطاقة هوية مزورة” لتوهم الزبون بأنه صناعة وطنية، مرصعة بألفاظ فخمة من عينة المصطلحات المستوردة، وهى سلع لا تزيد كثيرا عن “البدل” أو الأحذية من الماركات الفاخرة، التى يتم استيرادها على المودة، تخطف عين الزبون ببريقها، وجودة صنعتها.
ولن ينتبه كثيرون إلى أن المصطلحات والتسميات السياسية، والاجتماعية، والمعرفية، الواردة فى أحاديث وكتابات النخب، مستوردة بامتياز، وعلى سبيل المثال مصطلحات: إنتليجنسيا، إنتيلكتويل، جرامشي، هيجمونيا، أيدولوجيا، ليبرال، بورجوازى، تكنوقراط، بروباجندا، راديكال، فاشية، نازية.
ومن المصطلحات الاجتماعية، والنفسية: جندر وجندرية، فامينزم، تابو، أيجو، سيكوباتى.. وغيرها الكثير.
والألفاظ السابقة منقولة حسب نطقها فى لغاتها الأم ومرسومة بالحروف العربية، وفى مستوى أخر هناك تسميات ومفاهيم أخرى مترجمة، أكثر شيوعا فى الاستخدام، وأقل صعوبة على المتلقى، مثل الذكورية، والأنثوية، ومجتمع الميم.
ونعود إلى مستهلكى الثقافة، والنخبة “المضروبة”، وعلاقتها بما يسمى “الربيع العربى” التى لم تسبقها أو تستصحبها ثورة فكرية، تحدد من نحن وماذا نريد بالضبط؟!، والذى حدث أن أكثر المشاركون فيها سلموا أرادتهم بعد أن سلموا أدمغتهم لهذه النخب، وهذه النخب سبق لها تسليم أدمغتها للغرب، فوظفهم الغرب لصالح مخططه، ودار الجميع فى دائرة جهنمية.
وإذا افترضنا حسن النية، فى النخب والمثقفين العرب، فلن يشفع لهم العذر بالجهل، والكسل العقلى، والسعى وراء الاسترزاق، والتكسب.
والمطلوب الآن من السابقين أن يعيدوا مراجعة مفاهيمهم، وبناء تصوراتهم، وتكييف مناهجهم، وتجديد مقارباتهم بغاية الولادة من جديد، ولن تكون هذه الولادة جديدة إلا إذا تلبس المثقف روح حقيقية ناقدة للمنتج الثقافى الغربى، ومنتجات النهضة والحداثة وما بعد الحداثة، وبعد النقد المعمق والشجاع واستخراج ما يفيد من الركام، تأتى مرحلة التأسيس، والمزاوجة، وأعادة البناء لمنتج ثقافى عربى أساسه التراث الغنى الذى نملكه.
وأخيرا هناك مصطلح لم أذكره بأعلى على الرغم من أنه أكثر المصطلحات السياسية شيوعا واستهلاكا فى حياتنا السياسية قاطبة، وهو الـ “ديموقراطية”، (بالإنجليزية: Democracy).
وعلى الرغم من شيوع المصطلح، لم يسبق أن اخضعه أحد من النخب العربية للفحص، ولم يتجرأ بنقده لا عاقل ولا مجنون إلا واحد قرر أن يخوض مغامرة خدش قداسة “الديموقراطية” كمنهج، فماذا قال؟.. الإجابة على السؤال قد تكون موضوعا لمقال قادم إن شاء الله.
اقرأ أيضا للكاتب:
– عاطف عبد الغنى يكتب: الطرف الثالث فى تسريب الوثيقة الأمريكية الملفقة
– عاطف عبد الغنى يكتب: التوبة قبل التعميد