لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: الأحداث في السودان.. نظرة تحليلية
السودان تلك الدولة الملاصقة جغرافياً لمصر، والقريبة لقلوب كل المصريين، بما نحمله من تاريخ مشترك؛ كنا خلاله دولة واحدة، وكان الملك فؤاد الأول هو ملك مصر والسودان، قبل أن تمنح ثورة يوليو 52 للسودان استقلاله، وهو ما لم يغير من مكانتها في قلب كل المصريين.
فالسودان هي الامتداد الطبيعي لمصر جنوباً، وتشترك البلدان في حدود بطول 1250 كيلو متر، ويربطنا معاً شريان الحياة، وهو نهر النيل العظيم، وتمثل كل دولة منا، بالنسبة لشقيقتها، امتداداً للأمن القومي المباشر. وحتى سنوات ليسب ببعيدة، كان التكامل هو سمة العلاقات بين مصر والسودان؛ فكان سكان البلدين يتبادلون الزيارات، دون الحاجة لجوازات السفر، أو تأشيرات الدخول، مكتفين ببطاقات إثبات الهوية، للعبور بين البلدين، وهو ما يفسر وجود خمسة مليون مواطن سوداني، اليوم، في مصر، بلا جواز سفر أو إقامة.
إلا أنه، ومع الأسف، اعتلى حكم السودان الرئيس السابق عُمر البشير، في آواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بعد انقلاب عسكري على حكومة الأحزاب الديموقراطية برئاسة رئيس الوزراء الصادق المهدي، فكانت الثلاثون عاماً التي قضاها في الحكم، من أسوء الفترات في تاريخ العلاقات المصرية السودانية. كان الرئيس البشير إخواني الهوى، والانتماء، وكان الرئيس الوحيد الذي أيد الرئيس العراقي صدام حسين في غزو الكويت، وكان سبباً في تصنيف السودان، عالمياً، ضمن قوائم الإرهاب، بعدما احتضن الكثير من القيادات الإرهابية الفارة من أفغانستان، وعلى رأسهم أسامة بن لادن.
وعلى أرض السودان، تم التخطيط لمحاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، في أثيوبيا، في 1995، كما اتخذ موقفاً مناهضاً لمصلحة مصر، وحتى السودان، خلال مباحثات مياه النيل مع أثيوبيا. وقبيل عزله عن الحكم، منح البشير لتركيا حق إدارة جزيرة سواكن، في المجري الملاحي للبحر الأحمر، بدعوى وجود آثار تركية تاريخية بها، منذ غزو الإمبراطورية العثمانية إلى اليمن، فلا عجب أن تمر العلاقات المصرية السودانية، في عهده، بأسوأ مراحلها على مر التاريخ.
وفي مثل هذا الشهر من عام 2019، عزلت القوات المسلحة السودانية، الرئيس البشير من منصبه، بعد ثورة شعبية جارفة، وبدأت الأمور تعود إلى طبيعتها بين الدولتين المصرية والسودانية، ولعل أبلغ دليل على ذلك، ما بذلته مصر من جهود حثيثة، مع الولايات المتحدة الأمريكية، لرفع اسم السودان من قوائم الإرهاب الدولية، بما يمكن قياداتها من البدء في خطة إصلاحات اقتصادية ومالية وسياسية شاملة. ولما استمرت حالة عدم الاستقرار تهيمن على الأوضاع في السودان، خلال السنوات الماضية، بعد تأجج الأوضاع، ومطالبات الشعب السوداني، باختيار قيادة وحكومة مدنية، وقفت مصر على الحياد، إيماناً منها بحق الشعب السوداني في تقرير المصير، وضرورة احترام قراراته.
وخلال رحلتها لاختيار حكومة مدنية، بديلاً للمجلس العسكري، والإعلان بأن تشكيلها بات وشيكاً، فجأة تطورت الأمور في السودان، خلال المشاورات الخاصة بضرورة دمج القوات المسلحة السودانية، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهامي، مع قوة التدخل السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو، تلك العملية التي رأت الأحزاب السودانية ضرورة اكتمالها خلال عامين، في حين أصر الفريق دقلو أن يتم الدمج على مدار عشر سنوات. وهنا حدثت الأزمة، عمن سيكون القائد العام للقوات المسلحة السودانية، في الحكومة المدنية الجديدة.
جدير بالذكر أن الجيش السوداني، يقوده الفريق البرهامي رئيس مجلس السيادة السوداني، بينما يقود قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، وتعتبر تلك القوات شبه عسكرية، ونشأت في البداية باسم “مليشيات الجندويد”، وكانت تقاتل باسم الحكومة في حرب دارفور، وخرجت من تلك الفترة، بسمعة سيئة. وفي عام 2013 تشكلت رسمياً كقوة عسكرية سودانية، تحت سيطرة المخابرات السودانية، وفي عام 2019 ضمها الرئيس البشير للقوات السودانية، وعيّن دقلو لقيادتها، ومنحه رتبة الفريق. ومع اندلاع الثورة الشعبية، في السودان، تخلى محمد حمدان دقلو عن البشير، وانضم للثورة، وأصبح نائباً لرئيس مجلس السيادة السوداني.
ومع الأسف، تطور الخلاف إلى صراع عسكري، منذ يوم 15 أبريل، وحتى كتابة تلك السطور، دون بيان عمن بدأ القتال، الذي وصفته صحيفة الصنداي تايمز بأنه انقلاب، وهو ما اعتبره توصيف خاطئ للأحداث، إذ أن الصراع دائر حول السلطة العسكرية في السودان، وليس صراعاً على الحكم، أو على رئاسة الحكومة المدنية الجديدة، حال تشكيلها. وخلال هذا القتال العسكري كان هناك دوراً للدولة العميقة، وأقصد بها فلول نظام البشير. الذي لا يؤيد طرفاً على حساب الآخر، وإنما يهمه استمرار تذكية وإشعال نار القتال بين الطرفين، لإثبات أن فترة حكم البشير كانت الأفضل، للشعب السوداني، الذي يعتبر هو الخاسر الوحيد مما يدور على الساحة السودانية.
وإذا ما طرحنا التساؤل عن الأمل في حل الأزمة ووقف القتال وإيقاف إطلاق النار؛ فيجب أن نوضح أنه من وجهة النظر العسكرية، فإن القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات، مرهون بقوة كل طرف على أرض القتال، فمن تقاس بأنه الأقوى، تجده يقبل وقف إطلاق النار، والتفاوض، علماً منه بما سيكون له من مميزات وأفضلية نسبية في فرض شروطه. وفي رأيي أن هناك ثلاث مراكز قوى قادرة على حل تلك الأزمة، بالتوازي، عاجلاً وليس آجلاً، أولها الطرف العربي، ويقصد به مصر والسعودية والإمارات وجامعة الدول العربية، حيث تعتبر مصر أكثر الدول اهتماماً بأمن السودان، باعتباره امتداداً للأمن القومي المصري، فضلاً عن اشتراك الدولتين في تأمين البحر الأحمر، الممر الرئيسي لثلث التجارة العالمية، واشتراكهما في قضية مياه نهر النيل. يضاف لذلك العلاقات الأبدية بين الشعبين، بوجود 5 مليون سوداني يعيشون بمصر، ووجود العديد من الطلبة المصريين والعاملين في السودان، والقوات العسكرية المصرية التي شاركت في التدريبات المشتركة، سواء الجوية منها مثل “نسور النيل”، وغيرها البرية مثل “حارس الجنوب”.
أما السعودية، فتعد إحدى الدول المحورية المشاركة في أمن البحر الأحمر، وتمتد علاقاتها مع السودان، سواء من خلال ما تلقته من دعم سوداني في القوة المشتركة، في حرب اليمن، أم من خلال ما قدمته السعودية من دعم مالي كبير، للسودان، في الفترات السابقة، وهو ما ينطبق، تماماً، على العلاقات السودانية الإماراتية. أما جامعة الدول العربية، فقررت عقد اجتماعاً على مستوى المندوبين الدائمين، وطالبت بوقف إطلاق النار، على الفور.
وعلى الصعيد القاري، تظهر القوة الثانية، متمثلة في الاتحاد الأفريقي، القادر على القيام بدور الوساطة، لسرعة وقف إطلاق النار، والوصول إلى حل لصالح الشعب السوداني. أما القوة الثالثة، والأخيرة، فتتمثل في الكتلة الغربية، وتحديداً، الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، فعلى الرغم من تصريحات وزراء الخارجية الأمريكي والبريطاني ووزراء خارجية باقي الدول الأوروبية، التي تنادي بضرورة وقف إطلاق النار، إلا أنني على يقين من قدرة تلك القوى، وعلى رأسها الأمم المتحدة، من استخدام آليات أخرى للضغط على الأطراف المتقاتلة، لوقف إطلاق النار، من ضمنها إرسال مندوبها في المنطقة، للاتصال بالأفراد المتحاربة، فوراً، لإيقاف إطلاق النار، والبدء في التفاوض وصولاً إلى حل سلمي، يحافظ على أرواح الشعب السوداني.
وفي اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، أعلن الرئيس السيسي استعداد مصر للوساطة حقناً لدماء السودانيون، مع التأكيد على مبدأ مصر الراسخ، بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، مع احترام حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. وهكذا، يبقى الأمل في نجاح كافة القوى في وقف إطلاق النار، خاصة مع اقتراب عيد الفطر المبارك، رغم ما يبديه الطرفين من عدم استجابة. وسننتظر ما ستسفر عنه الساعات والأيام القليلة القادمة، داعين المولى أن يتحقق السلام في السودان، وفي المنطقة، بما يحفظ الأرواح.
Email: [email protected]