طارق متولى يكتب عناوين (5): العقل المتفتح والعقل المنغلق
فى دراستنا لعلم الترجمة من الإنجليزية إلى العربية والعكس، أتذكر كلمة قالها لنا شيخ المترجمين وأستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة والذى تقلد مناصب جامعية كثيرة العالم الأستاذ الدكتور محمد عنانى رحمه الله وهى أن نفصل أى كلمة نريد ترجمتها عن المعنى أو المرادف الذى نعرفة بل أن نستبعده تماما حتى نستطيع ترجمة النص.
بمعنى أن الكلمات لها أكثر من معنى ونحن نربط كل كلمة بمعنى واحد فى عقولنا كلمة book مثلا استبعد كلمة كتاب، رغم أن كلمة book معناها كتاب لكن قد لا يكون المعنى هو المقصود فى النص المترجم.
وما سبق يقودنا إلى أن العقل البشرى يميل إلى أرشفة المعلومات التى يتلقاها دائما عبر الحواس تحت مسمى معين، ومعنى معين، فلا يمكن أن يترك شىء دون أن يحدده ويعرفه ويخزنه فى جزء خاص به، فإذا ما ذكر مرة أخرى أمامه فإنه يستعيد التعريف المخزن فى العقل ليسقطه عليه.
أنت مثلا إذا ذكرت لشخص كلمة مدرسة فإنه يعطيك معنى المدرسة المخزن فى العقل أنها مكان للدراسة والطلاب على الرغم من أنها من الممكن أن تكون مجرد مجازا يقصد بها عالم أو حجة فى العلم.
وهكذا هذه الأرشفة فى العقل الحقيقة عمل روتينى للعقل فكل كلمة يقابلها معنى لا تحيد عنه وبالتالى إذا ذكرت معنى آخر لا يتعرف عليه عقل الشخص ويرفضه.
وهنا تحضرنى قصة رواها هوارد كارتر مكتشف مقبرة توت عنخ امون فى الأقصر عام ١٩٢٢ عن نقل مومياوات الدير البحرى بعد اكتشافها من الأقصر إلى المتحف المصري بميدان التحرير قبل نقلها مؤخرا إلى متحف الحضارة الجديد أنها كانت تنقل عبر النيل على صنادل بحرية وكان فى مدخل القاهرة على النيل إدارة للجمارك الواردة من الجنوب إلى القاهرة فلما وصلت المومياوات على مشارف القاهرة احتار موظفو الجمارك فى تصنيف المومياوات على الورق الرسمى لدخولها عبر الجمرك فقرروا أن يؤيدوها فى الورق أنها فسيخ لأنه لايوجد ضمن كشوف البضائع الواردة آثار أو مومياوات .
هذا ما يحدث فى عقولنا الحقيقة عندما نغلقها على معانى وأفكار محددة، ونعمل لها كشوف فإذا أتت فكرة جديدة لا نجد لها معنى فى الذاكرة نستنكرها ونردها إلى المعلومات التى لدينا الصحيحة من وجهة نظرنا.
لهذا تجد أن أكثر الأشياء صعوبة هو تغيير المفاهيم التى فى العقل لأنها مؤرشفة ومنظمة ومعقودة .
ومشكلة هذا الانغلاق العقلى أننا أصبحنا مثلا نربط كلمات معينة باشياء معينة فى الشرق، مثلا يربطون الغرب بالكفر وفى الغرب يربطون الشرق بالإرهاب، وكثير من الأمثلة التى نربط بها الأشياء بمعانى مخزنّة لدينا فيضيق حكمنا على الأشياء ولا ننفتح لمعرفة جديدة أو لمعرفة جوانب أخرى من حقيقة الأشياء حتى نكون على علم حقيقى بها.
والحل كما قال أستاذنا الدكتور محمد عنانى أن نفك العقدة التى تربط المعنى الواحد المحدد للكلمة ونفتح عقولنا لمعرفة معانى أكثر بكثير فتزداد معرفتنا.
ووظيفة العقل الحقيقية هى التفكر الدائم والبحث الدائم والحصول على مزيد من المعرفة التى لا تنتهى ولا يصح أبدا أن نغلقه هذا هو الفرق بين العقل المتفتح والعقل المتغلق بين التقدم والتأخر .
اقرأ أيضا للكاتب:
– طارق متولى يكتب عناوين (3): الحس السليم فى العقل السليم
– طارق متولى يكتب عناوين (4): الهداية والغواية