رفعت رشاد يكتب: “كيسنجر”.. داهية العصر الحديث
ألمح الكاتب الكبير رفعت رشاد فى المقال التالى، إلى دور داهية السياسة اليهودى الأمريكى هنرى كيسنجر، فى الصراع العربى – الإسرائيلى، وخاصة بعد حرب 6 أكتوبر 1973 وحضور كيسنجر الواضح على مسرح الأحداث، خاصة فى المفاوضات التى جرت بين مصر وإسرائيل، وصولا إلى عقد اتفاقية السلام بين الطرفين 1979.
لكن المقال على إيجازه استطاع أن يقدم صورة شديدة التكثيف، للأجيال التى لا تعرف من هو “كيسنجر”، لاعب السياسة، والدبلوماسية الخطير، وأحد أكثر المؤثرين فى أحداث العالم خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وأليكم نص المقال:
يجود الزمان كل قرن أو أكثر بشخصية عبقرية يكون لها أكبر الأثر فى تشكيل العالم سياسياً وتاريخياً وجغرافيا، يأتى هنرى كيسنجر على رأس من ساهموا بشكل وافر فى تشكيل خريطة العالم ورسم قواعد ألعاب السياسة والعلاقات الدولية.
فى 27 مايو الحالى يكمل «كيسنجر» مائة عام من العمر، وهو ما أعطاه قيمة إضافية باعتباره شخصية تاريخية عاصر كبار الساسة فى العالم فى وقت لم يكن فيه العديد من قادة العالم الحاليين قد تخرجوا فى الجامعة.
ولد «كيسنجر» عام 1923 وهو من القلائل فى العالم الذين يعيشون منذ ذلك التاريخ، لكن المؤكد أنه أذكى الجميع وأكثرهم تركيزاً وانتباهاً، ويبدو وكأن قرناً من الزمان لم يفت فى عضد هذا الداهية الذى وضع اسمه عالياً فى تاريخ السياسة والدبلوماسية.
ولد «كيسنجر» يهودياً ألمانياً وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى بدايات أربعينات القرن العشرين، وبعد أن أنهى خدمته العسكرية انخرط فى التدريس بالجامعات الأمريكية، وعلى رأسها الجامعة الأشهر، هارفارد.
من خلال قدراته فى التفكير السياسى والاستراتيجى اقترب من دوائر صنع القرار فعيَّنه الرئيس الأمريكى نيكسون عام 1969 مستشاراً للأمن القومى.
انطلق «كيسنجر» يرسم من جديد خريطة العالم، واقتدى بفحول السياسة والدبلوماسية فى أوروبا عقب الثورة الفرنسية وهم النمساوى ميترنخ والإنجليزى كاسلر والفرنسى تاليران، الذين قادوا أوروبا للسلام فى ظل تهديدات «نابليون» وطموحاته التوسعية.
تشبَّع «كيسنجر» بأفكار ومنهج هؤلاء الدبلوماسيين حتى إنه ألَّف عنهم أحد أهم كتبه وهو «استعادة أو ترميم العالم».
كما لـ«كيسنجر» مؤلفات عديدة أخرى تضمنت أفكاره ومنهجه الاستراتيجى على مدى قرن كامل، حيث لم يحظ آخر بمثل ما حظى «كيسنجر» الذى صار فى فترة السبعينات وزيراً للخارجية الأمريكية، وكان بذلك أول وزير مولود خارج الولايات المتحدة.
لعب «كيسنجر» أدواراً محورية فى تغيير مسارات السياسة الدولية، وكان له دور فى إعادة العلاقات الأمريكية – الصينية وقبول أمريكا بالصين كقوة عظمى وشغلها مقعدها الدائم فى مجلس الأمن بعدما كانت العلاقات مقطوعة ومتوترة بسبب شغل فرموزا – تايوان، ذلك المقعد واستبعاد الصين.
استخدم «كيسنجر» تكتيكات ومصطلحات مبتكرة فى دبلوماسيته، فكانت دبلوماسية البينج بونج والموسيقى بداية لفتح طريق العلاقات مع الصين حتى زار الرئيس الأمريكى نيكسون الصين والتقى الزعيم التاريخى للشعب الأصفر ماو تسى تونج، وهو ما منح أمريكا السبق فى خطوات أكبر فى علاقتها مع الاتحاد السوفيتى فخاضا معاً مفاوضات للحد من انتشار الأسلحة النووية وبدأ التعاون بينهما فى رحلات فضائية مشتركة.
كما لعب «كيسنجر» دوراً مؤثراً فى إنهاء الحرب مع فيتنام التى تعرضت فيها أمريكا للهزيمة السياسية وتكبدت خسائر فادحة عسكرياً أعجزتها عن حسم النتائج لصالحها.
وفى الشرق الأوسط كانت اللعبة الكبرى لـ«كيسنجر» الذى أثار إعجاب الرئيس السادات لدرجة أنه كان شغوفاً بأن يتواصل معه بأى طريقة، واستغل «كيسنجر» هذا الشغف فى تحقيق أهدافه التفاوضية وابتكر سياسة المكوك للتقريب بين المصريين والإسرائيليين ووضع الخطوط الرئيسية والأساسية للأوضاع فى الشرق الأوسط.
عندما اشتعلت الحرب الروسية – الأوكرانية دخل «كيسنجر» على خط التصريحات وأدلى بدلوه مطالباً بإعطاء روسيا قطعة من أوكرانيا، كما أنه فى هذا العمر يقوم بزيارات وينصح بسياسات حيث لا يزال داهية العصر مسموعاً ومقدراً من الجميع. قد تتفق معه أو تختلف فى أهدافه لكنه بلا شك أحد الخالدين فى تاريخ السياسة والدبلوماسية.
اقرأ أيضا للكاتب: