القس بولا فؤاد رياض يكتب: عيد الصعود المجيد
تحتفل الكنيسة بصعود يسوع إلى السماء وتمجيده.
نُعيّدُ لصعود ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح إلى السمّاء، وذلك بعد أربعين يومًا من قيامَتِه وظهوره للتّلاميذ. “فيسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماء” (اعمال 11:1).
صعد يسوع الى السماء وعاد الى ملكوته (يوحنا 18: 36) بعد أن أتمَّ عمل الفداء وأكمل خطة الخلاص. ومن هنا نتسأل ما هي ابعاد عيد الصعود وكيف نعيشه؟
عيد الصعود هو عيد ارتفاع الرب يسوع على سحابة عن عيون تلاميذه الذي يرمز لحضور الله. ويكون إذاً دخول السيّد المسيح في السحابة إشارة إلى دخوله في مجد الله. أما السماء التي ارتفع إليها الربّ يسوع فليست الفضاء الخارجي الذي يحيط بالأرض، وليست مكاناً يمكن الصعود إليه بالقدرات البشرية. إنّه عالم لا تدركه حواسنا ومخيّلتنا. ولكنه عالم حقيقي ثابت أكثر حقيقة وثباتاً من عالمنا الحالي، وقد دشّنه الربّ عندما قام من بين الأموات. إنَّ ربّ صَعِد إلى السماء أي إلى مجد الله أي إلى مجد لاهوته وكرامته بصفته إلهاً مساوياً للآب.
فى عيد الصعود تبرز عدة أسئلة هامة هى :
متى وكيف ولماذا صعد السيد المسيح إلى السماء ؟
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول :
متى صعد السيد المسيح إلى السماء ؟
الإجابة :
صعد السيد المسيح إلى السماء بعد أربعين يوماً من القيامة .. بعد أن أتم العمل الذى جاء من أجله ..
يقول قداسة البابا شنوده الثالث : السيد المسيح قد جاء إلى العالم لكى يؤدى رسالة معينة هامة هى الفداء وخلاص العالم، وقد أضاف إليها رسالة أخرى هى تعليم الناس التعليم الصحيح، لذلك لما أدى رسالة الفداء قال على الصليب “قد أكمل”.
ولما أدى رسالته فى التعليم قال للآب “العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته”.
العمل الذى أكمله يسوع كان واضحاً فى قوله
“أنا مجدتك على الأرض”.
“أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم”.
“لأن الكلام الذى أعطيتنى قد أعطيتم وهم قبلوا”.
“حين كنت معهم فى العالم كنت أحفظهم فى اسمك الذين أعطيتنى. حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب”.
“أنا قد أعطيتهم المجد الذى أعطيتنى ليكونوا واحد كما إننا واحد”.
“عرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به وأكون أنا فيهم”.
لذلك بعد أن أدى السيد المسيح رسالته فى الفداء والتعليم كان ممكناً أن يترك هذه الأرض ويصعد إلى فوق.
إذن السيد المسيح ..
أولاً : صعد إلى السموات بعد أن أتم رسالته فى الفداء والتعليم.
ثانياً :
السيد المسيح لم يصعد إلا بعد أن غلب العالم والشيطان.
قال السيد المسيح لتلاميذه مؤكداً ذلك
“ثقوا أنا قد غلبت العالم”.
-(يو19: 30).
وكما غلب العالم قد غلب الشيطان أيضاً :
غلب الشيطان فى التجربة على الجبل وطرده قائلاً “اذهب يا شيطان”، فتركه الشيطان. ولكن الشيطان لم يتركه على الدوام بدليل أن الكتاب يقول “ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين”.
ربنا يسوع ينتصر على الشيطان فى التجربة على الجبل
بل على الصليب سمع عبارة قالها الشيطان على أفواه بعض الناس “إن كنت ابن الله انزل من على الصليب”.
وهى تشبه تماماً قول الشيطان نفسه للسيد المسيح “إن كنت ابن الله فقل أن تقيم هذه الحجارة خبزاً”.
بل أيضاً قد جربه الشيطان على فم تلميذه بطرس عندما تكلم السيد المسيح عن أنه سيسلم إلى أيدى الشيوخ ويتألم كثيراً ويُقتل .. قال بطرس “حاشاك يارب لا يكون لك هذا”فانتهره الرب قائلاً “اذهب عنى يا شيطان أنت معثرة لى”.
-(مت4: 10). -(مت16: 21- 23).
لقد غلب السيد المسيح الشيطان فى كل تجربة سواء من الشيطان مباشرة،
أو من أفواه الشعب، أو على فم أحد تلاميذه لكى يصعد إلى السماء غالباً، ويعطى مثالاً صالحاً للغالبين ..
لذلك نجده فى سفر الرؤيا يعطى وعوداً عجيبة لمن يغلب :
“من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التى فى وسط فردوس الله”.
“من يغلب فلن يؤذيه الموت الثانى”.
“من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى”.
“من يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاء ولن أمحو اسمه من سفر الحياة وسأعترف باسمه أمام أبى وملائكته”.
“من يغلب فسأعطيه أن يجلس معى فى عرشى كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبى فى عرشه”.
هكذا كان لازماً أن لا يصعد إلا بعد أن يغلب أولاً، وبعد أن ينتصر لكى “يقودنا فى موكب نصرته”.
ثالثاً :
السيد المسيح لم يصعد إلى السماء إلا بعد أن اطمأن على تلاميذه وعلى كنيسته.
كانت هناك شكوك كثيرة تحارب التلاميذ بعد أحداث الصليب، لذلك ظهر لهم مرات عديدة وأراهم أيضاً نفسه حياً ببراهين كثيرة، وجعلهم يتأكدون من قيامته. ومكث يظهر لتلاميذه مدة أربعين يوماً وهو يحدثهم عن الأمور المختصة بملكوت الله.
وفى تلك الفترة شرح لهم عقائد الكنيسة وطقوسها وكل الرموز المتعلقة به فى العهد القديم.
ولكى يطمئن أيضاً على تلاميذه وعدهم بالروح القدس.
“وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد”.
-(رؤ1: 7).
السيد المسيح مع تلاميذه يشرح لهم كل الأمور المختصة بملكوت السموات
“وأما المعزى الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم”.
السؤال الثانى :
كيف صعد السيد المسيح إلى السماء ؟
أولاً :
صعد فى مجده، وكان ذلك دليلاً على لاهوته
يقول الكتاب “ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض وقالا أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء إن يسوع هذا الذى ارتفع عنكم إلى السماء سيأتى هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء”.
لما أتى الرب فى تجسده أتى فى اتضاع .. ولد فى مزود بقر .. لم يشعر به أحد إلا قليلون قد أعلن لهم، وقيل فى ذلك أنه :
“أخلى ذاته آخذاً صورة عبد. صائراً فى شبه الناس. وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب”.
-(يو14: 26). -(أع1: 9- 11). -(فى2: 7، 8).
لكنه فى صعوده صعد فى مجد ليس متحدياً قوانين الجاذبية لكنه صعد بجسد ممجد روحانى لا علاقة له بالجاذبية الأرضية لأن الجاذبية تتعامل مع المادة .. والجسد الذى صعد به السيد المسيح لم يكن جسداً مادياً.
أيقونة لصعود المسيح
كان الصعود بجسد ممجد أمراً لازماً لتلاميذه إذ تكون هذه أخر صورة للمسيح المتجسد تثبت لهم لاهوته.
فالسيد المسيح كما اختار الوقت المناسب لصعوده اختار أيضاً الطريقة المناسبة للصعود بـ :
1- شهادة سحابة من السماء.
2- شهادة ملاكين لصعوده ولمجيئه الثانى بنفس الطريقة، فيقول الرب “إن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً”.
معنى هذا أن أصله من السماء ومنها جاء إلى الأرض، ثم من الأرض يصعد إلى حيث كان أولاً. وقد أكد هذا المعنى بقوله :
-(يو6: 62).
“ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء”.
وبصعود السيد المسيح انتهت عبارة (إخلاء الذات) وفى ظهوراته بعد الصعود كان يظهر فى مجد.
1- عندما ظهر لشاول يقول الكتاب “بغتة أبرق حول شاول نور من السماء فسقط على الأرض وكان وهو مفتوح العينين لا يبصر أحداً”.
2- عندما ظهر ليوحنا الرسول فى جزيرة بطمس ظهر له فى مجد “ووجهه كالشمس وهى تضئ فى قوتها”.
ظهور المسيح لشاول الطرسوسى
-(يو3: 13).
الصعود إذن كان فى مجد، واستمر المجد بعد الصعود إلى أبد الآبدين.
ثانياً : كان صعوداً على السحاب
“ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم”.
كما سيأتى أيضاً على السحاب. وقد صعد علانية أمام تلاميذه.
السؤال الثالث : لماذا صعد السيد المسيح إلى السماء ؟
قد يتساءل البعض لماذا صعد السيد المسيح إلى السماء، ولماذا لم يبق فى وسط تلاميذه على الأرض يشجعهم ويقويهم ويرشدهم ويقودهم إلى أن ينتهى العالم ؟!
وللإجابة على هذا السؤال عدة أسباب هى :
1- لأن السيد المسـيح قد جاء من السماء كان ينبغى أن يصعد إلى السماء بمعنى أن الصعود هو إثبات على ألوهية السيد المسيح وولادته من الآب قبل كل الدهور. وأنه هو نفسه الله الكلمة الذى صار جسداً فى ملء الزمان من أجل خلاصنا. وهو نفسه قد قال “خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم وأيضاً أترك العالم وأمضى إلى الآب”.
“أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم”.
2- أراد السيد المسيح أن يرد إلى الإنسان كرامته بعد طرده من الفردوس حينما أخطأ الإنسان الأول.
لقد طرد الإنسان الأول من الفردوس حينما خالف الوصية الإلهية وجاء السيد المسيح باعتباره آدم الثانى أو آدم الجديد، وقدم طاعة كاملة لله الآب. وبهذا استحقت البشرية أن تسترد كرامتها المفقودة فى شخص الرب المتجسد يسوع المسيح باعتباره رأس الكنيسة، لهذا قال معلمنا بولس الرسول “أقامنا معه وأجلسنا فى السماويات فى المسيح”.
-(أع1: 9) -(يو16: 28) -(يو8: 23) -(أف2: 6).
آدم وحواء يطردان من الجنة
لقد رفع الله الآب رأسنا حينما استقبل رئيس خلاصنا بكل الفرح فى الأمجاد السماوية.
3- صار السيد المسيح باكورة الداخلين إلى الملكوت السماوى .. كما كان باكورة للراقدين بقيامته المجيدة من بين الأموات ولهذا صار أيضاً سابقاً لنا فى صعوده إلى أعلى السموات، وفى دخوله إلى قدس الأقداس التى نصبها الرب لا إنسان “دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً”.
لهذا قال لتلاميذه “أنا أمضى لأعد لكم مكاناً وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتى أيضاً لأخذكم إلىّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً”.
4- أراد السيد المسيح أن يؤكد فكرة الملكوت السماوى أى أن الحياة الأبدية بعد القيامة هى فى السماء وليست على الأرض، ولكى ندرك أن “ليس لنا هنا مدينة باقية ولكننا نطلب العتيدة”.
أراد أن يجعلنا نشتاق إلى السماء إلى حياة الوجود مع الله مع الآب السماوى، وأن نشعر بغربتنا على الأرض متذكرين قوله “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً”.
-(عب9: 12).
5- أراد السيد المسيح أن يوجه تلاميذه إلى أحضان الآب السماوى أى إلى إيجاد علاقة حب ودالة وصلاة بينهم وبين الآب لأن طلبات التلاميذ كانت كلها منحصرة فى السيد المسيح أثناء وجوده وسطهم، وأراد بصعوده إلى السماء أن يجعلهم يطلبون من الآب مباشرة باسم المسيح لهذا قال لهم “إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمى اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً”.
كان السيد المسيح يريد أن يربط التلاميذ بعلاقة حب مع أبيه السمائى لهذا قال “أنا مجدتك على الأرض أنا أظهرت اسمك للناس وقد عرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى ..”.
6- أراد السيد المسيح أن يربط تلاميذه بعلاقة وثيقة مع الروح القدس ليتذوقوا محبته ومواهبه وينقادوا به “لأن جميع الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله”.
لذلك أعطاهم السيد المسيح وعداً بأن يرسل لهم الروح القدس الذى هو روح الحق الذى من عند الآب ينبثق وقال لهم “أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد”.
السؤال الرابع : كيف نستفيد نحن من الصعود ؟
1- أن نصعد بقلوبنا وأفكارنا نحو السماء
قال السيد المسيح “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع”.
فكان صعود السيد المسيح هو بدء لصعودنا جميعاً ليس بالطريقة اللاهوتية التى صعد بها إنما بطريقة روحية نستطيع بها أن نكون معه كل حين.
2- النظر إلى المسيح الصاعد يجعل حياتنا الروحية فى صعود مستمر ..
الحياة الروحية فى صميمها هى صعود مستمر على الأقل صعود فى المستوى الروحى، فالمستوى الروحى للإنسان لابد أن يكون فى صعود مستمر، وهو ما يسمى بالنمو الروحى .. أو ما نسميه الصعود إلى فوق فى سلم الفضائل.
-(يو16: 24).
3- التوبة المستمرة تجعلنا نستفيد من الصعود ..
بالتوبة يصعد الإنسان من المستوى الأرضى المادى، ومن أوحال الأرض إلى المستوى الروحى إلى المستوى السماوى.
4- الصعود يجذب أنظارنا نحو العون الإلهى ..
كل من يقابله مشكلة ونظر إلى أسفل لن تحل مشكلته، ولكن إن نظر إلى السماء حيث المسيح إنما ينظر إلى العون الإلهى الذى تحل به أى مشكلة.
كل عام وأنتم بألف خير بمناسبة عيد الصعود المجيد
………………………………………………………………….
كاتب المقال: “كاهن كنيسة مارجرجس المطرية القاهرة”