عبد الغنى الكندى يكتب: لماذا كانت الحرب متوقَّعة في السودان وسوريا وليست كذلك بمصر وتونس؟
بيان
تقديم:
هذا ليس مجرد مقال ، ولكنه بحث شارح يؤسس للإجابة على السؤال الذى طرحه الكاتب والمفكر السعودى عبد الغنى الكندى فى العنوان: لماذا كانت الحرب متوقَّعة في السودان وسوريا وليست كذلك بمصر وتونس؟.
وبقدر ما يبدو السؤال بسيطا للبعض تأتى الإجابة المعمقة عنه صعبة، لكن كاتب المقال الذى استعان بتاريخ نماذج الدول التى خاضت عملية التحول الديموقراطى ليصل إلى الحالة العربية، التى أصابتها عدوى “اضطرابات التحول” فيما يسمى مرحلة “الربيع العربى” ومآلات الصراعات السلطوية فى داخل هذه الدول.. مبحث مهم للغاية وتأتى أهميته أنه صادر عن ضمير قومى ، لا شبهة فيه ولا فى مرامه.. وفى التالى نص المقال البحثى
المقال
بعد الحرب العالمية الثانية انشغل علماء السياسة الغربيون بدراسة النموذج الديمقراطي للحكم. وأكدوا أن الديمقراطية ليس لها قالب أو شكل واحد، وإنما هناك نماذج متنوعة لممارسات الحكم الديمقراطي سواء كان ذلك على صيغة الحكم البرلماني الملكي (بريطانيا)، أو النظام الرئاسي (أميركا) أو شبه الرئاسي (فرنسا).
وكان الهدف من دراسة تلك الأشكال المتنوعة للنظام الديمقراطي التعرف على علاقة كل نموذج سياسي بتحقيق الأمن والاستقرار الوطني وجودة الحياة الإنسانية.
بيدّ أنه في ستينات القرن الماضي ومع تحرر الكثير من دول العالم النامي من الوصاية الاستعمارية، وانتشار حركات التحرر الوطني، وبروز المد اليساري سواء داخل المجتمعات الغربية وفي الدول المستقلة حديثاً، وتغير أنماط بنية الخطاب السياسي… انبثق اهتمام معرفي جديد بين كوكبة من علماء السياسة.
وكان هذا الاهتمام منصبّاً على دراسة أسباب وأنماط ووتيرة تحول الدول من الأنظمة غير الديمقراطية إلى النظم الديمقراطية وطبيعة المخرجات النهائية لهذا التحول بدلاً من الانشغال بدراسة طبيعة مؤسسات الحكم الديمقراطي. وأطلقوا على هذا النوع من الدراسة مسمى (التحول الديمقراطي democratization).
وشاع تداخل هذا التكتل العلمي الجديد افتراضات نظرية ترى أنه على غرار تنوع النظم الديمقراطية، فإن أنظمة الحكم غير الديمقراطية لها أشكال متنوعة أيضاً، ولكل شكل منها علاقة بالاحتمالات الممكنة لغياب الاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي.
وفي هذا السياق بَحث هؤلاء العلماء علاقة هذه الأنظمة غير الديمقراطية بأنماط ووتيرة التحول وبالمخرجات النهائية لعمليات انتقالها من نظام غير ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي.
وعلى الرغم من تصنيف بعض علماء السياسة للأنظمة غير الديمقراطية إلى أشكال متنوعة وعلاقة هذا التنوع بمخرجات التحول المستقر نسبياً أو العنيف، فإن معظمهم صَّنف هذه النظم غير الديمقراطية إلى ثلاثة نماذج رئيسية: أنظمة عسكرية غير عقائدية، والأنظمة العسكرية العقائدية التي تدار بحزبٍ واحد مُوجه آيديولوجياً، والأنظمة الشمولية غير الحزبية.
ولفهمٍ وتشريحٍ أعمق لظاهرة العنف السياسي والحروب الأهلية اللاحقة لأي عملية انتقال من نظام غير ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي، وزَّع علماء السياسة عمليات التحول الديمقراطي على ثلاثة مباحث أساسية: طبيعة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية (المرحلة السابقة للتحول)، وبيئة صناعة القرار وقواعد اللعبة السياسية التي تدير آليات المساومة والمفاوضات وتوزيع المغانم السياسية (المرحلة الآنية في أثناء التحول)، وانعكاسات كل ذلك على مخرجات التحول كاستقرار المؤسسات الديمقراطية الناشئة أو حدوث انتكاسات عنيفة (المرحلة اللاحقة للتحول). ولكل من هذه المباحث والمراحل الثلاث نظرياتها الخاصة وعلماؤها المتخصصون.
وقد كان السؤال المركزي الذي ربط كل هذه المباحث الثلاثة هو: لماذا مخرجات بعض الأنظمة غير الديمقراطية تشهدُ أنماطها تحولاً ديمقراطياً سلمياً بدرجات متفاوتة (مع التشديد على مفردة نسبية) في حين أن الأخرى تشهد وتيرة متسارعة من أنماط العنف السياسي والتي تفضي في بعض الأحيان إلى حروب أهلية، أو تفكك للنظام المستحدث، أو انهيار للدولة ومجتمعاتها المستقرة؟.
وكانت نتائج دراسات وأبحاث العلوم السياسية هي أن طبيعة المؤسسات السياسية غير الديمقراطية والعمليات والأحداث والقرارات السابقة لمرحلة التحول إلى الديمقراطية هي التي تحدد في الغالب ترتيبات المفاوضات والمساومات (في أثناء عملية التحول الديمقراطي) بين اللاعبين الجدد.
وفي الوقت نفسه بإمكان التعرف على شكل الأنظمة غير الديمقراطية أن تُسهم في توقع سيناريوهات (ما بعد التحول) وما إذا كانت الدولة ستنجح في عملية التحول السياسي أو ستخرج عن المسار الديمقراطي المتوقَّع لها وتحولها بالتالي إلى حرب أهلية أو أنواع مختلفة من العنف السياسي.
وأطلقوا على تلازم هذه المراحل الثلاث path-dependence أو نظرية تبعية المسار.
وفي إطار هذه النتائج اكتشف هؤلاء العلماء أن الأنظمة العسكرية التي لا تُدار بآيديولوجيا أو عقيدة سياسية هي الأكثر حظاً في فرص احتمالات تجنب العنف السياسي أو الحرب الأهلية بعد التحول السياسي من الحكومات الشمولية التي تُدار بعقيدة سياسية، أو من الأنظمة العسكرية التي تدار بحزب عقائدي منفرد بالسلطة.
كما تزداد هذه الفرص والاحتمالات إن كان غالبية القائمين على إدارة قواعد اللعبة السياسية التي تحكم عمليات المساومات والمفاوضات (في أثناء عملية التحول) من الفاعلين المرنين غير المؤدلجين وتهميش الفاعلين المتطرفين من أي صفقة سياسية.
والسبب الراجح في تفسير التفاوت في مخرجات التحول الديمقراطي بين تلك الأنظمة السياسية يعود إلى أن بيئة صناعة القرار في الأنظمة العسكرية غير العقائدية غالباً ما تميل في مفاوضاتها ومساوماتها في أثناء عملية التحول إلى قواعد لعبة win-win game، التي تعني الاتفاق البراغماتي ضمنياً بين النخب السياسية والعسكرية على توزيع الغنائم والمكاسب السياسية بين جميع الفرقاء.
وفي المقابل، فإن بيئة صناعة القرار في الأنظمة العسكرية والشمولية المحكومتين بعقيدة سياسية غالباً ما يتعاظم فيها فرص احتمالات تفضيلات النخب السياسية والعسكرية للجوء إلى اللعبة الصفرية أو اللعب وفق قواعد win-lose game التي يستحوذ فيها طرف واحد على كل المغانم على حساب خسارة الطرف الآخر كل شيء.
وفي مثل هذه البيئة المؤدلجة غالباً ما يتعقد مسار المساومات نتيجة لهيمنة العقائد الشمولية على توزيع المحاصصة السياسية بين اللاعبين المتفاوضين لإدارة مرحلة التحول السياسي وخلوّ عملية المقايضة من البراغماتية العملية في اختيار البدائل المتاحة والممكنة. وفي مثل هذه البيئة المغلقة فإن تكلفة خروج القائد السياسي من اللعبة السياسية تعني الموت لكل أطراف نخبته الضيقة التي تَدين بالولاء المطلق للقيم الرمزية لعقيدة الحزب أو لشخصية القائد السياسي والتي يندر فيها وجود أي هامش غير عقائدي للمناورة والمقايضة السياسية.
وبمعنى أكثر وضوحاً فإن الطبقة العسكرية غير العقائدية غالباً ما تميل إلى القبول بمفاوضات ومساومات قوامها التخلي عن الحرس القديم داخل النخبة السياسية بما في ذلك رئيس الدولة، أو التنازل المشروط عن السلطة في حال استجاب الثوار أو المعارضة لمطالب سياسية تتعلق بحماية استقلالية المؤسسة العسكرية، والحفاظ على استمرارية مصالحها، والإحجام عن محاكمة بعض أفراد الطغمة العسكرية في قضايا مرتبطة بانتهاكات حقوق الانسان.
وهو الأمر الذي حدث في الموجة الثانية للتحولات الديمقراطية السلمية في سبعينات القرن الماضي عندما تحولت الحكومات العسكرية غير العقائدية في جنوب أوروبا كالبرتغال وإسبانيا واليونان إلى حكومات ديمقراطية، والأمر نفسه مع حكومات Junta العسكرية في ثمانينات القرن المنصرم في أميركا اللاتينية كالبرازيل، والأرجنتين، وبوليفيا، والبيرو، أو بالتحولات الديمقراطية الآسيوية في التسعينات في الحكومات العسكرية لكوريا الجنوبية وتايوان.
وعلى الرغم من تنوع هذه التجارب عبر مناطق مختلفة في العالم، فإن القاسم المشترك بينها هو أن تحولاتها الديمقراطية كانت سلمية (نسبياً)، وذلك لأن السياق الداخلي لصناعة القرار للنخبة العسكرية لم يكن عقائدياً، بل كان أقرب إلى الحسابات البراغماتية النفعية، علاوة على خلوّ الأطراف الفاعلة التي قادت عملية التحول من أي جناح أو فصيل عقائدي متزمّت.
وبالتالي كانت التوقعات باحتمالية ميل القيادات العسكرية إلى المقايضة السياسية وفق قواعد لعبة الربح للجميع win-to win game عالية. وعلى النقيض من ذلك، انتهت سيناريوهات مسار التحول الديمقراطي في الأنظمة العسكرية الحزبية أو الشمولية الموجهتين عقائدياً إلى أشكال متنوعة من العنف: كالتدخل العسكري الخارجي لفرض الديمقراطية من الخارج كما كان الحال مع ألمانيا النازية والنظامين الفاشيين الإيطالي والياباني، أو أدى التحول الديمقراطي في بعض الحالات الأخرى إلى انهيار وتفكك الدولة كالاتحاد السوفياتي الشيوعي، أو حرب أهلية دموية كالنظام اليوغسلافي الشيوعي سابقاً، أو اغتيال الرئيس وزوجته والتصفية الدموية لبعض النخبة السياسية كما هو الحال مع الحكومة الشيوعية في رومانيا… .
والتفسير الراجح في مثل هذه الأنظمة السياسية العقائدية هو تغلغل التعاليم الآيديولوجية في كل هياكل ومفاصل الدولة التي أفضت إلى أن تكون العلاقات التي تربط بين قياداتها السياسية والعسكرية عضوية وغير مرنة.
كما طغى على حسابات بعض اللاعبين الذين قادوا العملية السياسية في أثناء مرحلة التحول الالتزام الآيديولوجي والاحتكام إلى قواعد اللعبة الصفرية، أو لعبة win-to-lose game. وبالتالي كانت تكلفة خروج اللاعبين من اللعبة السياسية خسارة كل شيء كالمحاسبة الباهظة لبعض الفاعلين الرسميين، أو تصفية القائد السياسي ودائرته الضيقة، أو مصادرة ممتلكاتهم وثرواتهم، أو حتى تقويض وتدمير النظام كله.
وفي السياق الجيوستراتيجي «للربيع العربي»، فإن المجهود التنظيري والجهاز المفاهيمي والأدوات البحثية ومنهجية التحليل العلمي التي طوَّرها علماء السياسة، ناهيك بوفرة الدراسات التجريبية في تخصصات العلوم السياسية، ما زالت تمتلك قوة تفسيرية هائلة في شرح كثير من حالات التحول السلمي والعنيف للديمقراطية التي جرت في منطقتنا العربية.
فالتفاوت في مخرجات التحول الديمقراطي كان واضحاً بين الأنظمة العسكرية التي لا تحكمها عقيدة سياسية عن الأنظمة العسكرية والشمولية العقائدية التي يطغى على عمل مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية آيديولوجيا فاشية، وذلك نظراً لاختلاف عمل الهياكل المؤسساتية الداخلية السابقة للانتقال نحو المسار الديمقراطي، وتباين قواعد اللعبة السياسية التي تحكم آليات المساومات والمقايضات السياسية في أثناء إدارة ملف التحول الديمقراطي.
فالحكومات العربية العسكرية الموجَّهة بحزب عقائدي أو الأنظمة الشمولية التي كانت تتحكم في صناعة قراراتها التعاليم الآيديولوجية الفاشية كانت تحكمها في الغالب قواعد اللعبة الصفرية أو الاستحواذ على كل شيء مقابل خسارة كل شيء للطرف المنافس win-lose game.
وقادت قواعد هذه اللعبة إلى غياب هوامش التفاوض والمساومات على أسس براغماتية نفعية بين بعض اللاعبين السياسيين الذين باشروا عملية التحول الديمقراطي بسبب طغيان أدوات التفاوض الصفرية الناتجة عن الانغلاق الآيديولوجي. ولذلك كانت مخرجات التحول الديمقراطي في هذه الأنظمة العقائدية تتسم بالعنف الجماعي، فإما على صورة احتلال خارجي كما حدث مع حزب البعث العراقي، وإما حكومة الكتاب الأخضر الليبية، وإما حرب أهلية كالحال مع النظام البعثي السوري، وإما انقسام داخلي في المؤسسة العسكرية كما هو الحال في الأزمة السودانية الحالية التي تغلغلت فيها العقيدة الإخوانية للبشير والترابي، والمماثل نسبياً لتفكك الجيش اليمني الناتج عن هيمنة توجهات حزب الإصلاح الإخواني وسيطرة النزعات القرائبية والقبلية على علاقات القيادات العسكرية.
وفي المقابل، فإن الأنظمة العسكرية التي كانت لا تحكمها آيديولوجيا عقائدية شمولية ومستقلة نسبياً عن الحزب السياسي العقائدي، كانت أقل نسبياً (مع التشديد على مفردة نسبياً)، من حيث أنماط العنف السياسي.
فعلى الرغم من أن تحول الأنظمة العسكرية العربية غير العقائدية لم يكن نحو مزيد من الانفتاح السياسي ومؤسسات الحكم الديمقراطي، فإنها كانت، مقارنةً بنظيراتها من الأنظمة السياسية العقائدية، أكثر تماسكاً وانسجاماً في قيادة التحول السياسي نحو مزيد من الاستقرار الأمني والحفاظ على بقاء مؤسسات الدولة بدلاً من انهيارها وتفككها والحد من تفاقم العنف المجتمعي وشيوع الحروب الأهلية كما كان الحال في مصر مبارك، وتونس بن علي، وجزائر بوتفليقة. والتحليل المرجح في ذلك أن الإجراءات البيروقراطية التي كانت تحكم المؤسسات الداخلية لهذه الدول لم تتغلغل فيها أي تعاليم آيديولوجية، كما كان الجهاز العسكري مستقلاً نسبياً عن الحزب السياسي المهيمن، وبالتالي كانت البيئة التفاوضية للاعبين السياسيين أكثر براغماتية في إدارة المقايضات في أثناء التحول السياسي والتي أفضت لعقد صفقات مع اللاعبين المنافسين قوامها التنازل عن بعض المكتسبات السياسية، أو التخلي عن القيادات السياسية وبعض أفراد النخبة القديمة مقابل الحفاظ على الاستقلالية النسبية للمؤسسة العسكرية وبقائها في السلطة وغير ذلك من الامتيازات والحصانات.
ومن هنا كانت اللعبة النفعية win- win game، التي ترتكز على انتهازية اغتنام فرص المكاسب النسبية هي التي رسمت مشهد عملية التحول السياسي في سياق تحولات «الربيع العربي» لبعض الأنظمة العسكرية غير العقائدية.
وعلى وجه العموم، تبقى عملية التحول الديمقراطي في عالمنا العربي أكثر تعقيداً من المناطق الأخرى، ولم تشهد مخرجاتها كلها بلا استثناء عملية ديمقراطية حقيقية. ولذلك فإن التفاوت بين مخرجات «الربيع العربي» لم يكن بين تحولات ديمقراطية وأقل ديمقراطية، بل كان الرهان الاستراتيجي بين بقاء الدولة أو انهيارها أو تحولها إلى درجات مختلفة من العنف السياسي والحروب الأهلية.
وأخيراً لا بد من الإشارة أيضاً إلى أهمية متغيرات تفسيرية أخرى في دراسات التحول الديمقراطي ناقشها علماء السياسة المختصون كدور الأنساق الدولية، وتأثير الدول الإقليمية والكبرى، والجهود المبذولة من المنظمات الإقليمية والعالمية، واستقلالية المجتمع المدني، ونضج المجتمع السياسي، ودور القانون، وفاعلية الجهاز البيروقراطي، والتركيبة الاقتصادية للدولة وعلاقات الإنتاج فيها، وتحولات البنية الطبقية في المجتمع، وأهمية العوامل الثقافية والجيوسياسية، ومقاربات أخرى ترتبط ببناء مفهوم الوطنية والدولة الوستفالية، وغيرها من العوامل الشارحة الأخرى التي لا يتسع المقام لشرحها.
اقرأ أيضا للكاتب:
– عبدالغنى الكندى يكتب: المرأة ومجتمعات الأنا العليا الصلبة
……. ………………………………………………………………………………………………………………..