محمد أنور يكتب: ماذا عن الليث بن سعد؟
بيان
هناك كثير من الأشخاص، الذين لهم باع كبير جدا في شتى المجالات، ولكن ربما لا يعلم عنهم أحد، أو قد سمع – بشكل عابر – عن مجرد اسمهم، وقد اخترتُ “الليث بن سعد”، لما له من آثار وعلامات بحياته أثرت على الكثير من حوله.
وُلِد بن سعد في قرية قلقشندة، مركز طوخ ، محافظة القليوبية ، في ليلة النصف من شعبان عام ٩٣ه ، ويشاء الله أن يموت في نفس الليلة التي ولد فيها ، ليلة النصف من شعبان، حيث نشأ الصبى وسط أشجار الفاكهة والمناظر الطبيعية الجميلة، فأحب الجمال وتعلم القرآن الكريم وحفظ الحديث ، وأول ما روى من أحاديث: (إن الله جميل يحب الجمال).
لقد كان الليث بن سعد مليح الوجه طويل القامة وضيء الابتسامة، ناعم البال ، مطمئن النفس ، فطن عنده الرغبة إلى اقتحام المجهول واستيعاب كل ما تخفيه الحياة من اسرار.
اتجه الصبى إلى جامع عمرو بن العاص، وتعلم تفسير القرآن ودراسة الأحاديث والسنة والفقه ودراسة علوم اللغة العربية ، أدرك أن النصوص ليست ظاهرة فحسب ليست كلمات بل هي روح لها دلالات وفحوى وعلل وذلك لأنه أتقن اللغة العربية واسرار بلاغتها ، وأدرك معانى الأحاديث.
اتخذ الرجل مذهبًا وسطا بين أهل الرأي، وأخذ يذيع مذهبه بين زملائه الطلاب ، وكان من العجب أن يهتدى شاب في نحو السادسة عشرة من عمره إلى وجهة نظرا مستقلة بين أهل الحديث.
أقام الليث بن سعد دارًا كبيرة في الفسطاط، بعد أن توفى والده، واضطهد من الوالى في هدم منزله بقريته ثلاثة ليال متتالية، كلما هدم الوالى داره اصلحها الليث وأعاد بناؤها ، وثقلت عليه الهموم ، فجاءه في المنام من يقول له قم ياليث فاقرأ قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين).
ذهب الليث بن سعد إلى الحج وكان في العشرين من عمره ، وتعرف على مالك بن أنس في حلقات العلم وتبادلوا الآراء ، ونشأ بينهما مودة وتبادلوا الهدايا ، وتعود الليث بعد ذلك على زيارة مالك بن أنس كلما ذهب إلى الحج ، وظل يصله بمائة دينار كل عام ولم ينقطع عطاء الليث لمالك حتى أصاب مالك عطاء الخلفاء وأصبح ثرياً .
أشتهر الليث بن سعد بالفطنة ونفاذ البصيرة ، وتفسير القرآن بروح النصوص ، دون الوقوف على الظاهر ، حتى ألمت بالرشيد نائبة لم يجد له أحد من الفقهاء مخرجا منها إلا الليث بن سعد.
فقد روى لؤلؤ خادم الرشيد قال، جرى كلام بين الرشيد وزوجته زبيدة وهي بنت عمه، فقال الرشيد لها أنت طالق إن لم أدخل الجنة ، ثم ندم وجمع الفقهاء فاختلفوا ، ثم طلب الليث بن سعد أن يحضر إلى الرشيد وعندما حضر إليه طلب مصحفاً فأحضر المصحف ، وقال الليث:تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن و أقرأها ففعل ، فلما انتهى إلى قوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) أمسك يا أمير المؤمنين ، قل والله.
فاشتد ذلك على الخليفة ، وقال الليث قل والله إني أخاف مقام ربى ، فقال ذلك ، فقال يا أمير المؤمنين فهما جنتان وليست جنة واحدة ، فارتفع التصفيق والفرح فقال الرشيد أحسنت والله ، وأمر له الرشيد بجوائز وآلاف الدنانير ، واقطعه الرشيد أرض الجيزة كلها ، وساله الرشيد ياليث ما صلاح بلدكم ؟
قال يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها ، ومن رأس العين يأتى الكدر ، فإذا صفا رأس العين صفت السواقى ، فقال الرشيد صدقت ، فأمر الرشيد إلا يتصرف أحد في مصر إلا بأمر الليث بن سعد ، وعاد إلى مصر بأرض الجيزة كلها ، وتضاعف ثروته ، وازداد تمتعا وتنعما بزينة الحياة التي احلها الله لعباده والطيبات من الرزق، وأصبح يطعم ثلاثمائة مسكين بعد كل صلاة.
ظل الشيخ يعلم الناس ، ويرعى أهل العلم ويتصدق على ذو الحاجات ويسدد الدين عمن يثقله الدين ، ويعمر البيوت ، ويحسن كما أحس الله إليه ، وكان خلاف مالك والليث في الفقه مثالاً للحرص على الحقيقة ، وشجاعة العالم في مواجهة الخطأ ، وقدرته على الرجوع الى الحق ، قال الليث أحصيت على مالك سبعين مسألة قال فيها برأيه وكلها مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد اعترف بأنه أخطأ في بعضها.
قال عنه أحد الفقهاء (كان الليث أفقه من مالك ولكن الحظوة كانت لمالك ، ولقد حزن لفقدان الامام الليث بن سعد كل فقهاء عصره ، وقال المسلمون في كل أقطار الأرض ، ذهب سيد الفقهاء ، وذهب الامام الشافعي إلى قبره ويقول في صمت (كل تلك الحياة الضخمة العريضة الزاخرة ، ذلك العقل الرائع المتوهج الخصب ، وذلك القلب الذى جعل حياة الناس من حوله نعيما خالصاً ، وملأها سكينة واملا والاحترام والمودة والخير ، والعطاء بلا حدود والحب الخارق للبشر ، والرغبة المقدسة في إسعاد الآخرين والتقوى ، لم يبق من كل هذه الروعة شئ…حتى الذكرى ؟! فما من كتاب واحد يحفظ آثار فكره ، واجتهادته المضيئة.
فهل يستحق أن نعرفه ؟!.. ونعم الرجل.