القس بولا فؤاد رياض يكتب: عيد النيروز
بيان
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في ١١ سبتمبر من كل عام بعيد النيروز. وهو رأس السنة القبطية أو عيد الشهداء.
الأقباط جعلوا لأنفسهم تقويمًا خاصًا بهم وهو التقويم القبطي أو تقويم الشهداء الذي يبدأ بسنة ٢٨٤ ميلادية. وهي بداية عصر الطاغية دقلديانوس الذي كان من أقسى عصور الاضطهاد التي مر بها الأقباط.
عيد النيروز هو بداية السنة القبطية، ولا توجد كنيسة في الأرض يقوم تقويمها الزمني على ذكرى شهدائها غير كنيسة مصر، لكي تظل أم الشهداء كنيسة شاهدة، وشهيدة للمسيح على مر العصور.
مكانة الشهداء في الكنيسة:
الكنيسة تُحب الشهداء، وتحب الاستشهاد. وإن كنا نحتفل بعيد الشهداء (النيروز) فنحن نحتفل بالشهداء في كل يوم تقريباً.
الشهداء لهم في الكنيسة مكانة عظيمة. حيث تُبنى الكنائس والأديرة على أسمائهم. فيوجد دير أبو سيفين على اسم الشهيد مرقوريوس أبي سيفين، ودير الأمير تادرس على اسم الأمير تادرس، ودير مار جرجس في مصر القديمة، ودير مار جرجس في حارة زويلة، ودير القديسة دميانة البراري في دمياط.
نحن نحب الشهداء، ونحتفظ بأيقوناتهم، ونُقدس رفات أجسادهم.
اخر شهيد في العهد القديم كان يوحنا المعمدان، وأول الشهداء في العهد الجديد كانوا شهداء أطفال بيت لحم، وأول شهيد في الكنيسة هو الشماس اسطفانوس. ويوضع اسمه في المجمع قبل الآباء البطاركة، وقبل الكثير من الرسل. فالستشهاد بدأ بإسطفانوس، واستمر على مدى العصور المختلفة.
جميع الأباء الرسل أنهوا حياتهم بالاستشهاد ماعدا القديس يوحنا الحبيب الذي تعذب عذابات فوق الوصف، ولكنه لم يُستشهد.
الاستشهاد إكليل:
محبة السيد المسيح ليوحنا المعمدان كانت كبيرة حيث قال عنه السيد المسيح “لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ” (لو 7: 28).
ومع ذلك فقد أكرمه السيد المسيح بأن يكون شهيداً. كان السيد المسيح يستطيع أن ينقذه من الموت، ولكنه أعطاه بركة أن يكون شهيداً.
الاستشهاد شمل الكل وليس الرسل فقط. شمل أيضاً حتى أعداء المسيحية مثال لنجينوس الذي طعن السيد المسيح بالحربة صار وشهيدا في المسيحية، وتُذكر سيرته في السنكسار. أيضًاً إريانوس والي أنصنا الذي كان أقسى ولاة مصر في عهد دقلديانوس وعندما كانوا يحتارون في شخص مسيحي يسلموه لإريانوس ليعذبه. وفي النهاية نجد إريانوس آمن بالمسيحية وصار شهيداً.
الاستشهاد شمل النساء والأطفال أيضاً، وليس فقط الرجال. نسمع عن الأم دولاجي وأولادها، ونسمع عن الشهيد يوليطة وابنها الشهيد كيرياكوس، ونسمع عن الطفل أبانوب. وبالإجماع الاستشهاد صار شهوة المؤمنين في كل زمان (شهوة الموت على اسم المسيح).
وكان لسان حال المؤمنين هو: ما المشكلة في ضربة سيف، ثم أجد نفسي في الملكوت مع المسيح، فهذا هو أكثر واضمن الطرق المؤدية للسماء. لذلك نجد كتب كثيرة موضوعها (الحث على الاستشهاد) وأصبح الاستشهاد شهوة كما قال القديس بولس الرسول “لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا.” (في 1: 23).
تاريخ الكنيسة القبطية هو تاريخ الاستشهاد بدأ من العصر الروماني الأول في زمن نيرون. حيث استشهد في عصره القديسين بطرس وبولس إلى أواخر العصر الروماني في أيام دقلديانوس، واستمر الأمر إلى سنة ٣١٨م حين أصدر قسطنطين الملك قانون بالحرية الدينية. ولكن مع ذلك ومع الحرية الدينية استمر الاستشهاد والإرهاب الديني.
السيد المسيح قال لتلاميذه أنه عندما يؤمنوا به سيسيرون في الطريق الضيق. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ».” (يو 16: 33).
“سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ، بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً للهِ.” (يو 16: 2).
نتذكر القديس الشهيد يوليوس الإقفهصي الذي كان يكتب اسماء الشهداء وسيرتهم، ويجمع أجسادهم، وحفظ لنا تاريخ عظيم لهؤلاء الشهداء.
الشهداء هم أعظم من القديسين، وأعظم من الرهبنة، وأعظم من الكهنوت.
فالسيد المسيح يقول لنا “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ.” (يو 15: 13).
فالشهيد وضع نفسه عن إيمانه وبذلك يكون قدم أعظم حب.
كل إنسان يجاهد، ولكنه قد لا يصل إلى الاستشهاد. فالاستشهاد هو أقصى جهاد يمكن أن يصل إليه المؤمن. والاستشهاد كان يسبقه عذابات كثيرة، ولكن الله كان يعطي الشهداء القوة على الاحتمال حتى ينالوا اكليل الشهادة.
في النيروز يتعانق صليب المسيحي مع صليب المسيح. هو عيد لم يكتبه المسيحيين بأعمارهم، بل بالاستغناء عن اعمارهم حباً في الذي مات عنا.
الشهداء مثل باقة مُقدمة للمسيح، موضوع فيها كل الأعمار، وكل الألوان، وكل الأشكال، فيها كل فئات البشر أفراد وجماعات. هذه الباقة ظلت تنمو من الزمن البعيد، والعصر الأول. نمت رغم أن حياتها نُزعت من الأرض، وامتدت حتى ظهور العصر الحديث، وشهداء القرن العشرين والحادي والعشرين. وهنا تعانقت القطوف القديمة مع قطفة شهداء ليبيا وطنطا والإسكندرية.
حقاً إن باقة الشهداء تتلون بكل العصور.
على المذبح تضع العروس باقتها. فما فوق المذبح، وما تحت المذبح، إلا الحب. فدم الشهداء تحت المذبح، ودم المسيح فوق المذبح في الإفخارستيا. وبهذا أصبح عهد الدم مشترك، والإفخارستيا هي تلك الوليمة التي تُقيمنا حتى الآن حتى لا يغلبنا النعاس. إن دخول السماء يعتمد على دم المسيح وحده، وبالإستشهاد اختلط دم الذين على الأرض بدم الذبيح الأعظم.
شهداء الكنيسة القبطية في أخميم والفيوم وأنصنا وغيرهم يُرنمون مع شهداء طنطا وليبيا. فإن السنين الطويلة بينهم تتلاشى. فالشهداء فوق الزمن، وبالاستشهاد تتحد الكنيسة بالمسيح رغم أنها زمنية، وهو أبدي. ولكنه لأجلها صار أيضاً زمنيًا، لكي تسري أبديته فيها. فصارت الكنيسة أبدية كالأبدي. العروس مُخضبة بالدم، دم الإستشهاد، والعريس مخلصنا مُخضب بالدم، دم الصليب، وهنا تتحد الكنيسة مع الخلود. تأخذ من المسيح أغلى ما له- حياته- وتقدم للمسيح أغلى ما عندها- وهو حياتها- من خلال دم الشهداء المسفوك.
نهنئكم بالسنة القبطية الجديدة ١٧٤٠ للشهداء كل عام ومصر جميعها بخير.
………………………………………………………..
الكاتب: كاهن كنيسة مارجرجس المطرية القاهرة