محمد قدرى حلاوة يكتب: ” حباية ريفو “

بيان

كان يبدو دائما منطويا في أحد الأركان.. وحيدا بين الأقران.. بادي قصر القامة مع انحناءة خفيفة ورأس كبير ينظر دائما نحو الأرض، كأنه يبحث عن شئ مفقود أو لعله يجد بهجة في تتبع أسراب النمل وحفيف أوراق الشجر المتطايرة على الأرض من عصف الهواء.

وقد يكون يخاطب أبواه تحت باطنها – نسيت أن أقول أنه كان يتيما – عينان حادتان يشع منهما الذكاء.. يرتدي قميصا من أوراق الجرائد تحت ملابسه تسمع له “خرفشات” كلما ثني جسده أو أقامه.. ربما هو الربو الشعبي الذي أصابه منذ ولادته.. منعه الأطباء من ممارسة الرياضة والألعاب الصغيرة التي تتطلب بذل المجهود.. لم يتباه مثلنا بقطع الحلوى و” الملبس”.. حقيبته فقط ممتلئة بدواء ” الكحة” و “بخاخ” الصدر وشريط أخضر من” الريفو” كان يشير له دوما ضاحكا وهو يقول “ده الملبس بتاعي.. جدتي قالت إنه بيعالج كل الأمراض “.

تغيب ” على” بضعة أيام عن الذهاب للمدرسة وذهبنا إليه نعوده.. منزل بسيط في الدور الأرضي وحجرة قليلة الأثاث مكتظة بالكتب..” الكومود” بجواره قد أمتلأ بالأدوية و “دورق” من الماء ممتلئ إلى نصفه.. صورة باهتة معلقة فوق الفراش لرجل ذو شارب ضخم يعتمر “الطربوش ” ويداه مرتكزة على عصا معقوفة.. قال عندما لاحظ شخوصنا إليها “ده جدي الله يرحمه”.. ثم واصل وهو يضحك – بعد أن لمحنا بعض السخام الأسود يكلل جبهته – “دي جدتي كانت عاملة لي عروسة بترقيني من الحسد.. قالت لي إنها خلاص عرفت مين اللي حاسدني وهأخف.. بس لازم أفضل لابس ورق الجرائد على طول علشان الحسد ميرجعش”.

عشرون عاما مضت وصوت أوراق الجرائد على صدره لم يفارقه بعد، رغم وفاة جدته وبعد أن أصبح وحيدا .

كان “على” – ربما بحكم ظروفه – أكثرنا ثقافة واطلاعا وحكمة يكاد يلتهم الكتب التهاما.. قال مرة وهو يبتلع حبة من” الريفو “- عندما لاحظ نظرات الشفقة في عيوننا من كثرة ما يتناول من أدوية ومسكنات -..” الدكاترة قالوا لما أتولدت إني مش هأعيش كتير.. أدى أنا دلوقتي عمري ثلاثين سنة.. آه يمكن على طول أدوية ومسكنات – ثم صمت قليلا حتى هدأت نوبة سعال – بس كلنا حياتنا أدوية ومسكنات.. الأمل مسكن لليأس.. الحلم مسكن للواقع.. أنت مثلا – وأشار إلى بأصبعه – تفضل مستني القبض أول الشهر ده مسكن.. وأنت يا ” خالد” – صديقنا المشترك – عايز تعمل ” جمعية” ورا ” جمعية” علشان تجوز لما تقبضها ده مسكن برضه.. حتى في السياسة الرخاء..الرفاهية.. شد الحزام.. عنق الزجاجة.. بكرة اللي مليان خير كل دي مسكنات.. مش هنرتاح من الدواء والمسكنات إلا لما نموت “..

لم يمر كثيرا على هذا الحديث حتى كان” على ” قد توقف عن أخذ المسكنات.. ورغم وحدته فقد أمتلأ المنزل” بأولاد الحلال ” هذا يدبر مدفنا.. وجماعة قد أخذت في” غسله ” وآخرون يجهزون” النعش ” الخشبي”.. كتاب ملقي على طرف الفراش مدون به هوامش لن يقرأها أحد..” الكومود ” وشريط” الريفو ” في مكانهما المعتاد.. ورقه خضراء صغيرة مطوية ملقاة.. تدل على آخر حبة مسكن قد تناولها.

ملابسه ملقاة هنا وهناك.. و ” قمصان ” من أوراق الجرائد لم يتسن له إرتداءها.. نصف” ساندوتش” من ” الجبن” لم يتمكن من إكماله.. نظارته الطبية.. صورة الجد قد مالت على الحائط قليلا وبهتت أكثر فأكثر.. وجريدة يبرز منها ” مانشيت ” عريض.. ” الرئيس مبارك يعلن إنطلاق الصحوة الكبرى”.. تحته عنوان أقل سماكة ” علماء الإقتصاد : البرنامج يعبر بمصر إلى آفاق القرن العشرين”..

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: الأسطورة

محمد قدرى حلاوة يكتب: ” فارومايكا “

زر الذهاب إلى الأعلى