محمد قدرى حلاوة يكتب: « من سكات »

بيان

(١)

كان يوم الثلاثاء من كل أسبوع موعد قدوم ” أم رضا”.. ففي سبعيينيات القرن الماضي لم تكن ” الغسالة الكهربائية” قد أنتشرت بعد.. وكانت ربات البيوت يقمن بغسل الملابس بأنفسهن أو يعهدن بتلك المهمة الثقيلة لإحدى السيدات اللاتي يمتهن تلك المهنة.. وكانت ” أم رضا” إحدى هؤلاء.

” أم رضا” مصرية صميمة من أقاصي” الصعيد”.. في بدايات العقد السابع من عمرها.. سمراء البشرة.. بدا على جبينها إرتسامات الشقاء وزيارات الأحزان وعبثت به في صورة خطوط تجاعيد عميقة.

ترتدي جلبابا وغطاء رأس أسود.. يبرز على صدرها ” كردانا” مسدلا يبدو عليه أنه من معدن نحاسي رخيص.. لم تغير زيها أبدا.. ربما حدادا على زوجها (الذي كان يعمل في المعمار وتوفي في ” الكويت”) ونجلها الشهيد.. وقد يكون لفقر أو عيلة أصابت الأسرة بعد وفاة عائلها.. لم أعرف السبب ولم أبالي حينها.. تماما كما لم أعرف إسمها الحقيقي أبدا سوي أنها كنيت به تيمنا بابنها الأكبر ” رضا” الذي يعمل سائقا لنقل البضائع بين المحافظات.

كان ” لأم رضا” ثلاثة أبناء آخرين.. إثنان منهما سافرا إلى ” ليبيا” للعمل بذات مجال والدهما الراحل.. و ” فارس” ابنها الأصغر الذي أستشهد في معارك ” الثغرة” فى حرب أكتوبر.. وكانت تقطن منزلا صغيرا متواضعا بمنطقة ” قلعة الكبش” قريبا من مسكننا بحي ” السيدة زينب”.

دأبت” أم رضا” على العمل خمسة أيام في الأسبوع.. أما يومي الخميس والجمعة فقد حرصت على زيارة قبرا زوجها وولدها ” فارس” بقريتها النائية بمحافظة ” أسيوط “.. ولم تنقطع عن تلك العادة أبدا سوي في أيامها الأخيرة عندما وهنت صحتها وزارها المرض وبدأت تغمد سيف التحدي معلنة الإستسلام لقانون الحياة.

لحظة ما تأتي إلينا نعلم حينها أنه لا جدوى من مقارعة الحياة وتحدي الزمن.. ونخلد للرقود على الفراش شاخصة أبصارنا في هذا الفراغ المتخم بالخواء.. في انتظار إسدال الستار وإنطفاء الأنوار.. ترى هل كان من الحكمة أن نخوض هذا الصراع من البداية؟.

(٢)

لم أكن أحب يوم الثلاثاء يوم قدوم ” أم رضا” وخصوصا في الأجازة الصيفية.. فقد كان قدومها إعلانا ببداية حركة نشاط وضجيج في المنزل لا يمكنني معها أن أستغرق في النوم أكثر.

كانت ” أم رضا” منذ أن تمارس عملها لا ترتاح سوي وقتا قصيرا تتناول فيه كوبا من الشاي المغلي وتستنشق ” النشوق” وتتبع ذلك ببضعة عطسات متتالية (استنشاق النشوق وهو نوعا من التبغ عادة قديمة كانت منتشرة وقد تكون موجودة حتى الآن).

تبدأ العمل “بفرز الغسيل”.. البياضات جانبا والألوان في جانب أخر.. والأصواف شتاء لها ركن ثالث.. تشعل ” وابور الجاز” بعد أن تعبئه ” بالجاز” ثم تأخذ في دفع ” المكبس” جيئة وذهابا حتى تستقر ” الشعلة” ويعلو صوت هديره المعتاد.. تضع حينها إناء كبيرا مملوءا بالماء ” باستلة” وتتركه ليغلي، وتلقي فيه ببعض ” البياضات” وكمية مقدرة من مسحوق الغسيل ” رابسو” أو ” سافو”، وبعضا من ” البوتاس” وتأخذ في تقليب الملابس ” بعصا الغلية ” ( عصا خشبية طويلة لا شئ خاص يميزها) .. ثم تجلس القرفصاء واضعة أمامها ” طشت” نحاسي مدور عريض مملوء بالملابس واضعة عليها بعضا من ” مسحوق الغسيل و ” الزهرة ” وتشرع في فركها” دعكها ” بيديها مرات متكررة حتى يذهب ما علق بها من أتربة وغبار وأوساخ.. بينما أوصلت ” خرطوما ” بـ “حنفية الماء ” مستمرا في دفق تيارا مائيا جاريا” لتشطيف” الملابس ( كل تلك المهام تقوم بها الغسالات الكهربائية الآن بضغطة زر) .. آخذة في” عصرها ” بعد ذلك من آثار الماء.. إلي أن” تنشرها ” على الأحبال كي تجف في حرارة الشمس وتيارات الهواء.

كنت ألمح قطرات العرق الغزير تسقط على جبينها المكدود صيفا، وبعضا من أعراض البرد وسماته” مثل العطس” كلما كانت” تنشر” الملابس شتاءا.. عندما تضرب تيارات الهواء العنيفة ملابسها المبتلة.. لكنها لم تكن تشكو أبدا أو تتبرم.. وتمضي بيننا مبتسمة في طريقها نحو الشرفة.. ونحن نلعب ألعابنا البسيطة وهي تتمتم بالدعاء لنا.

عندما تنتهي ” أم رضا” من مهمتها تجمع أغراضها البسيطة ( علبة طعام الإفطار والراديو الترانزستور) في حقيبة زرقاء شبكية.. وتمضي نحو طريقها إلى منزلها بخطوات متسارعة نشيطة.. كنت أشعر بالهدوء والسكينة حينها.. فقد تخلصت من الضجيج.. وإن كانت رائحة الغسيل النظيف لها عبق ووقع لطيف على النفس..( بعد نحو ثلاث سنوات عندما ملكت الأسرة غسالة كهربائية إسطوانية ماركة ” إيديال” لم نستغني عن خدمات ” أم رضا” التي غابت الثلاثاء التالي لشراء الغسالة إلى أن عادت بعد أن تواصلت معها العائلة شارحة لها أن ذلك الجهاز الذي لا يقل ضجيجا هو لمعاونتها فقط وليس بديلا عنها أبدا.

وعندما شعرت ” أم رضا” بالأمان عادت لممارسة عملها وإن ظلت مصرة على تقليب الغسيل داخل الغسالة ” بعصا الغلية ” رغم الماكينة الدوارة التي تفعل ذلك.. زاعمة أنها لا تقوم بعملها على الوجه المطلوب الذي تصنعه ” عصا الغلية”..

(٣)

الثلاثاء ١٨ يناير ١٩٧٧.. عندما عدت من المدرسة سيرا على الأقدام كنت أشعر بالفزع الشديد.. كانت الشوارع حينها في حالة غضب شديد.. الناس كبارا وصغارا ثائرون على القرارات التي أعلنها نائب رئيس الوزراء ” د. عبد المنعم القسيوني” برفع أسعار بعض السلع الأساسية ومنها الخبز.

شاهدت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الشرطة وبعضا من الحرائق وواجهات حوانيت محطمة.. كنت أرتعد من الخوف..عندما دخلت المنزل وجدت ” أم رضا” تمارس عملها بهدوئها المعتاد.. أستقبلتني بعطف وحنان وهدأت من روعي وجلست أمامها وهي تمارس عملها وصوت الراديو مرتفعا ليغطي على ضجيج ” الغسالة الكهربائية” بينما ناولتني بضعة قطع من ” القراقيش” قائلة : ” خذها متخافش دي نظيفة ومعمولة من السمن البلدي.. فيه شوية فول باقيين معايا من عند” الجحش ” أسخنهم لك”.. وكانت ” القراقيش” شهية حقا.. و” أم رضا” تواصل حديثها معي قائلة ” الناس معذورة يا ابني.. الأسعار ولعت.. من سنين طويلة والناس صابرة ومستحملة.. حتى لقمة العيش عايزين يغلوها ؟ “.

ثم أخذت تحكي لي حكايات شيقة جميلة بلهجتها الصعيدية المميزة.. كانت تحكي لي قصصا ينتصر فيها الخير دوما على الشر.. ويظفر فيها الفارس بالأميرة الحسناء.. كم كانت ” أم رضا ” طيبة ونقية حقا.. الخير لا ينتصر على الشر سوي في حكايات الأطفال والفرسان يقاتلون طوال حياتهم ليس من أجل الفوز بالأميرة.. فقط لكي يتمكنوا من العيش حياة ممكنة.. حياة لا تناقض فيها بين الحصول على متطلباتهم الأساسية والإحتفاظ بالكرامة الإنسانية.

ظلت ” أم رضا ” فى منزلنا وقتا أطول من المعتاد في ذلك اليوم حتى أطمئنت على عودة الجميع بسلام.. وأيضا بعد أن تلقت اتصالا هاتفيا من ” رضا” يطلب منها البقاء حتى يحضر لأخذها نظرا للأحداث المشتعلة في الشارع.

ونسيت خوفي وهمومي وخصوصا عندما عرض التلفاز مسرحية ” مدرسة المشاغبين” يومها على غير العادة.. فلم يكن اليوم شم النسيم أو عيد الفطر أو الأضحى.. كما لم يكن عقلي الصغير يستوعب حينها آلية سياسات الإلهاء.. وإن كنت أعي الآن أنها قديمة راسخة.. وجدت قبلها وحينها والآن وفي الغد بالتأكيد.

(٤)

بدايات عام ١٩٧٨.. كنا نستعد لمغادرة حي ” السيدة زينب” العريق لننتقل للسكن في حي ” مدينة نصر”.. كانت مشاعري نحو يوم الثلاثاء قد تغيرت تماما.. كنت أنتظر العودة من المدرسة كي أستمتع بحكايات ” أم رضا” طالبا استئناف حكاية لم تكتمل أو راغبا في سماع حكاية جديدة.. وكانت ” أم رضا” تملك مخزونا لا ينفذ من القصص والحكايات الآسرة ولا تجد عنتا أو تبذل عناء يذكر في القص والحكي.. وإن مالت حكاياتها في تلك الفترة لاجترار الذكريات وطغي الواقع على الخيال ولم يكن وقع ذلك على النفس بأقل جاذبية أو شغفا وتأثيرا.

كانت تحكي كثيرا عن زوجها الراحل.. و أبنائها الهائمين في الغربة.. و ” فارس” الشهيد.. ورضا ” سندها” فى الحياة.. وتختم حديثها بالدعاء لهم بالستر والرحمة.

قالت ذات مرة ” زوجي أضطر يسافر ويتغرب… الرزق كان قليل والعيال كانت لسه صغيرة.. مات يا حسرة مرة واحدة كده ومن سكات.. ربنا بيحبه إنه مات قبل ما ” فارس ” يستشهد.. مكانش بيطيق عليه الهواء.. سماه على اسمه.. يمكن كان قلبه حاسس إنه هوه ده اللي هيأخد بإيدينا للجنة”.. وفر خيطا من الدمع سائلا من عينيها متحررا من قضبان الجلد والصبر والكتمان.. إناس كثيرون يفيضون كالنهر عرقا ودموعا.. لا يمكنك تمييز هذا عن ذاك… يختلطان في مزيج غريب كأنهما ينبعان من نبع دافق واحد..هل فرض على الإنسان الشقاء والدموع كي يتطهر ويسمو؟..

شهور قليلة وفي صيف عام ١٩٧٨ قضت” أم رضا ” أجلها.. وكنا قد انتقلنا حينها إلى” مدينة نصر”.. علمنا بذلك بعد فترة في إتصالا هاتفيا من ابنها ” رضا”.. حكي أنها كانت عائدة من العمل وأعدت الطعام وبعد أن تناولا غذائهما.. أخبرته أنها تشعر بالإجهاد وتريد أن تستلقي على الفراش قليلا.. وكانت رقدتها الأخيرة.

ماتت ” أم رضا”هي أيضا مرة واحدة ومن ” سكات” .. لعلها كانت ممتنة أنها ارتاحت من الشقاء.. قد تكون سعيدة أنها ذاهبة للقاء الأحباب.. هؤلاء القوم لا ناعيا ينعاهم ولا من شاهد يذكر بهم.. ربما كان موت البسطاء خيرا فهو سبيلهم الوحيد إلى الراحة.. ربما كان الانتصار الوحيد الذي يحققه الخير على الشر.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى