محمد قدرى حلاوة يكتب: ” الماكينة السنجر “

بيان

(١)

تلمحه قادما من بعيد يمضي بخطوات سريعة منتظمة.. منتصب القامة جاد الملامح.. مهوش الشعر كعادة جيله من السبعينييات يحمل في يده كيسا بلاستيكيا أسود.. يقف عند عربة ” عم حسان” بائع الفول لبضعة دقائق يأكل طبق الفول بالزيت الحار وقد أخذ يقضم عودا من البصل الأخضر بيده .. ما إن يفرغ حتى يلوح إليه مودعا.. يلقى تحية الصباح على أصحاب الحوانيت المجاورة.. يفتح قفل الباب الصاج بالمفتاح الضخم واضعا قدمه على بروزه.. ويرفعه دفعة واحدة مصدرا صريرا لا تخطئه الأذن.

” عم عبد الواحد” أشهر ” ترزي” فى المنطقة.. كنا نذهب إليه بأثواب القماش الأبيض والصوف الرمادي كي يحيك لنا ملابس المدرسة كل عام.. كان يجلس أمام منضدة خشبية مغطاة “بمفرش” مزين بالورود.. فوقها تجثم ماكينة الخياطة ” السنجر” المتصلة بخيوط البكر.. يضع حول رقبته المتر البلاستيكي المدرج.. ينهض مبتسما ويشرع في أخذ المقاسات.

بعض قصاصات القماش تحتل مساحة واسعة من المنضدة والأرض.. لفافات من الأثواب معلقة وراءه ملتصقا عليها ورقة صغيرة بيضاء بأسماء أصحابها.. بضعة أثواب محاكة بالخيوط البيضاء الواسعة ” السراجة”.. وأخري قد اكتملت هيئتها ولم يبق منها سوي الأكمام.. “شماعات” و “مكواة” فى أحد الأركان.

المسجل على أحد الأرفف يصدح بأغنيات ” أم كلثوم”.. عندما يكون ” عم عبد الواحد” منهمكا في العمل ينده على أحدنا قائلا “تعال اقلب الشريط”.. وينظر بتركيز شديد وقد رفع يديه لأعلى نحو مصدر الضوء حتى يلج الخيط في سم الإبرة.

كنا نجلس أحيانا في ليال السهر نتبادل الأحاديث.. ونلعب ” الكوتشينة” على بضعة قوالب من الطوب أمام باب المحل المغلق بجواره.. كان لا ينهرنا أبدا رغم ما نحدثه من جلبة.. ويمضي في عمله ويترامي إلى أسماعنا صوت الماكينة المنتظم.. وبين وقت وآخر نسمع صوت ” جلال معوض” الرخيم وهو يقدم أغنية “أم كلثوم” الجديدة.. من يومها ارتبطت أغانيها معي بمقدمته.. وصارت أبياتها تذهب بي بعيدا إلى هذا الزمان.. َمخترقة فضاء أربعون عاما ونيف من الماضي.. ليال الصيف.. أصدقاء الصبا.. الأحلام الصغيرة.. تلك الأيام القاصية الدانية .. البعيدة القريبة… تلك الوجوه والملامح.. يبدو كل ذلك وكأنه بالأمس فقط.. هل سرقنا الوسن والسبات كل تلك العقود؟.

(٢)

لم يكن لعم ” عبد الواحد” من أصدقاء قريبين سوي عم ” السيد”.. بلدياته وسائق سيارة سيادة ” اللواء” – ذلك الرجل المهم الغامض المرتدي دوما للملابس الرسمية والنظارة الشمسية السوداء – كان يرفض دوما أن يلعب ابنه الوحيد ” سامح” معنا في الشارع.. والذي كان ينظر إلينا دوما نظرة فضول وحنين لمشاركتنا ألعابنا كلما غدا أو راح.

كان ” السيد” شابا في عقده الثالث.. أسمر الوجه.. دقيق الملامح له أنف بارز وعيون حادة النظر.. ما أن يأتي حتى يهبط من السيارة فاتحا الباب “لسيادة اللواء” ويحمل بعض الحقائب.. يوصلها حتى باب المنزل.. ثم يهبط نحو محل ” عم عبد الواحد” ملقيا عليه السلام.. ويحمل مقعدا خشبيا من أحد المقاهي المجاورة.. يجلس مادا أقدامه إلى الأمام نازعا ” الكاب” ويأخذ في مسح جبينه ورقبته من العرق الغزير التساقط بمنديل قماشي” مخطط “.. ينحني بعدها لفك رباط الحذاء الضخم الذي يقبض على قدميه.

يأتي ” القهوجي” ” بمريلته ” البيضاء حاملا منضدة صغيرة من” الصاج ” يضع عليها ” صينية” أكواب الشاي الساخن والماء المثلج.. يتجرع ” السيد” كوب الماء دفعة واحدة.. وهو يحرك جريدة قديمة نحو وجهه بحركة سريعة مستجلبا نسمات الهواء.. يحمل كوب الشاي نحو ” عم عبد الواحد ” وهو يمد يده إليه بسيجارة قائلا له ” عامل إيه يا عم عبد الواحد.. إتغديت ولا لسه؟”.

يجلسان بعدها لفترة من الوقت يتناولان غذائهما على المنضدة “الصاج” والذي لا يتبدل في أكثر الأحوال.. إما ” تشكيلة” من “السمين” أو سندوتشات ” الفول” و ” الفلافل “.. وقد تحلقت حولهما بعض القطط متطلعة في فضول إلى الطعام.

يأخذان في تبادل الحديث عن البلد والأقارب والكرة وكل ما يعن على البال والخاطر.. وهما يلقيان ببعض الفتات للقطط.

يتذكران دوما أيام المدرسة الإبتدائية في القرية.. يضحكان كثيرا ويترحمان على” عبيد ” ثالثهما.. الذي أستشهد في حرب أكتوبر ١٩٧٣..

كان ” السيد” ابن ” البواب” محظوظا عن أقرانه عندما اختاره “سيادة اللواء” سائقا له خدمة لوالده.. كما كان محظوظا أكثر حينما أتى أهلهم إلى، العاصمة ليقطنوا حي ” السيدة زينب” متجاورين ولا يفترقا.. ويظل أصدقاء الصبا معا لولا ” عبيد”..
” الله يرحمك يا عبيد.. كان إبن موت صحيح.. فاكر يا عبده آخر أجازة ليه كان عمال يضحك ويتكلم إزاي.. كأن كان قلبه حاسس.. كأنه كان بيخلص آخر زاده في الضحك والكلام.. هو صحيح الواحد بيحس إن أجله قرب قبلها.. صدق اللي قال الموت دائما بيختار”.. نظر ” السيد ” إلى ساعته وأخذ يضبط هندامه.. كان موعد نزول” سيادة اللواء ” بعد تناول الغذاء قد حان.. صب كوب الماء في فمه دفعة واحدة كعادته قائلا” سلام بقى يا عبده.. أشوفك بالليل “..

(٣)

أختفي ” السيد” بضعة أيام.. ثم أتى بالسيارة ليلا وجلس أمام المحل ممارسا نفس الطقوس.. خرج ” عم عبد الواحد” إليه مسرعا وترك ما بيديه من عمل على غير عادته وصافحه معانقا إياه وقال ” إيه يا عم قلقتني عليك.. أول مرة تغيب كل ده”.. نظر ” السيد” حوله بحذر متمهلا في القول وأرتشف قليلا من الشاي و همس بصوت خفيض ” الوزارة مقلوبة.. علشان الجماعة اللي قتلوا الشيخ الذهبي “.. (اغتالت جماعة التكفير والهجرة الشيخ الذهبي وزير الأوقاف الأسبق في الثالث من يوليو عام ١٩٧٧).. واصل” السيد ” حديثه الهامس بعد أن تجرع جرعة أخرى من كوبه ” قبضوا على أكم ناس.. و الغريبة إن أكترهم متعلمين ومتنورين..”.

أخذ” عم عبد الواحد ” يتحسر على الحال وقال وهو يشعل سيجارة وينفث الدخان عاليا ” هوه إيه اللي جري في البلد.. يناير واللي حصل فيه (كان يعني مظاهرات الخبز في ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧).. يقولوا لنا شيوعيين.. ودلوقتي نسمع عن جماعات.. ده غير اللي بيحصل مع ليبيا.. (كانت المشاحنات مع ليبيا والقذافي قد أدت إلى قصف القوات المصرية لليبيا ٢١ يوليو ١٩٧٧ وسط إتهامات بالتسبب في العديد من الحوادث الإرهابية التي شهدتها مصر في تلك الفترة وأستمر القصف أربعة أيام).

خيم الصمت على الجلسة.. وهم” السيد ” بالنهوض مودعا” عم عبد الواحد ” وهو يقول” تعبان قوي يا عبده.. هأقوم أنام.. لسه بكرة هأصحي من الفجر.. إبقى إتغدي أنت لو أتأخرت عليك بكرة “.. قال له” عم عبد الواحد “” طيب كمل شايك طيب “.. لكن” السيد ” قد كان في حالة من الإجهاد لم تسمح حتى بأن يرد عليه..

أبي العام ١٩٧٧ ألا يطوي أوراقه ويرحل هكذا مكتفيا بما ميزه من أحداث مثيرة.. فأتت وقفة عيد الأضحى المبارك ١٩ نوفمبر ١٩٧٧..” عم عبد الواحد ” منهمكا بنشاط في” تشطيب ” ملابس العيد.. يقابل تذمر بعض الزبائن بابتسامة ود متفهما قلقهم من ألا يستلموا الملابس الجديدة.. واعدا إياهم بأنه سيظل ساهرا حتى الصباح حتى ينهي كل أعماله.

كانت مسحة حزن تظهر عليه و “السيد” يجلس بجلبابه الأبيض على مقعده المعتاد أمام المحل.. وظل الحديث بينهما متبادلا بصوت عال بينما ” عم عبد الواحد” يجلس أمامه الماكينة ويقص القماش بهمة مستخدما متره المعلق حول رقبته.

بادره السيد بالقول: ” الله يرحمك يا عبيد.. مش عارف كان هيقول إيه دلوقتي لو عايش.. عديت على الحاج سعد – والد عبيد – علشان أعيد عليهم وأشوفهم لو عايزين حاجة.. الراجل كان قاعد مبيتكلمش.. نازل عليه سهم الله.. الحاجة دموعها نازلة والريس نازل من الطيارة – في مطار تل أبيب – . وهوه عمال نظره متجمد على صورة ابنه “.

ظل” عم عبد الواحد ” صامتا.. واصل” السيد ” حديثه” مش هتتعشي ولا إيه؟.. كنا متعودين يوم الوقفة نأكل أكلة تبرنا وتعوض صيامنا.. مبتردش ليه يا عم؟.. شكلك مشغول ومالكش نفس.. أنا كمان ماليش نفس.. عموما بعد ما ” سيادة اللواء” يدبح بكره.. هأروح البلد خطف كده أزرو أعمامي وهأعدي على قبر عبيد أقراله الفاتحة”.

وقام ملقيا السلام على صديقه.. بينما” عم عبد الواحد ” ساهما وقد عاد طيف” عبيد ” يراوده وهما يعبران الترعة سباحة للضفة الأخرى.. بعيدا عن عيون الأهل والأقارب.. كان شعره المبلل يكشفه َوينال بعدها علقة ساخنة من والده..” لا شك أنه عبر القناة بنفس البراعة ” حدّث نفسه… تمنى أن يكون معه هذه المرة.. تلك المرة فقط.

كان ” عبد الواحد” الولد الوحيد لوالديه.. “لم يصبه الدور” كما يقولون.. تذكر ايام المدرسة.. كان عبيد يكبره بعامين ويكبر ” السيد بأربعة أعوام.. الوحيد الذي أتم دراسته فيهما.. حصل على مؤهل متوسط.. كان مثقفا وحديثه عذبا حكيما.. لا ينسى يوم هروبه من وحدته ليحضر جنازة” عبد الناصر “.. حديثه الواثق عن النصر.. عيناه اللامعتين وهو يتحدث عن الاستعدادات الجارية على الجبهة.. وصيته لهما ” لو حصلي حاجة خدوا بالكم من أبويا وأمي وأخواتي.. أبقوا أسألوا عليهم.. ماليش حد غيركم”.. فرت دمعة من عينيه فمسحها بسرعة.. وتلفت حوله ليتأكد أنه لم يلمحه أحد.. واصل الإنهماك في عمله حتى لاحت خيوط الصباح الأولى والمصلين يرددون ” الله أكبر كبيرا.. والحمد لله كثيرا.. وسبحان الله بكرة وأصيلا.. لا إله إلا الله “.

(٤)

في يوليو ١٩٧٨..كان ” السيد” قد أنهى خدمته قبلها بشهور.. خرج ” سيادة اللواء” إلى المعاش.. بدأ ” سامح” يحاول التقرب منا واللعب منا.. الحقيقة أننا لم نتقبله بيننا.. لم يكن هناك أي رابط أو ذكرى تربطنا به.. بدا حديثه مملا أحيانا.. ومتغطرسا أحيانا أخرى.. شعر بنفورنا وابتعد وعاد يراقبنا من بعيد.. شعرنا بالراحة ولم نبال بابتعاده.. واصلنا الحياة والسهر.. مستأنسين بجوار ” عم عبد الواحد” و ” السيد” الذي بدأ يعمل سائقا لسيارة نصف نقل.

ثلاثون عاما مرت من بعد.. ما زال ” عم عبد الواحد” يجلس جلسته المعتادة أمام المنضدة وصوت الماكينة يهدر.. ” جلال معوض” يقدم الحفل كأنه يبث الآن على الهواء.. هل حقا لم يختلف شئ؟.. الحقيقة أن كل شئ قد تبدل وتحوّل.

المحل المغلق بجواره أصبح الآن “سايبر”.. الأطفال الصغار الذين كانوا يجلسون بهدوء حل محلهم شباب كبار يتبادلون السباب والعراك أحيانا.. ” عم عبد الواحد” الذي، كان محله لا يخلو من الزبائن.. أصبح الآن يكاد يكون فارغا.. هذا يريد ” تقصير” بنطال .. هذه تبغى ” سرفلة” قطعة من القماش.. لم يعد أحد يرغب في “التفصيل” سوي القليل النادر.. طغت الملابس الجاهزة على المهنة.. هل من الضروري أن أقول أن ملامحه قد تجعدت وجبهته قد تغصنت؟.. شعره المسود المهوش صار منسقا شديد البياض بلون الثلج.. قامته انحنت وخطواته صارت حثيثة متمهلة.. صار يجد صعوبة كبيرة في ” لضم” الإبرة.. حتى أبناؤه لم يحبوا المهنة.. حققوا حلمه المنقوص وتخرجوا فى كلياتهم.. وشق كل منهما طريقه.

أما السيد فقد سافر في أوائل الثمانينات إلى إحدى دول الخليج.. وغادر المنطقة.. لم يراه إلا لماما في زيارات عابرة..
المحل مغلق الآن.. و ” عم عبد الواحد” لا يغادر مسكنه سوي للصلاة متكئا على عكازه.. زادت الإنحناءة وطغا الشيب.. ومازال أهل المنطقة يرددون وصيته ” لما أموت إبقوا إدفنوني مع عبيد”.. لا يؤرقهم سوي سؤال وحيد، لا يعلم إجابته سوي قليلون بعد وفاة السيد: من هو ” عبيد” هذا؟.. وأين يقع قبره؟!.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى