محمد قدرى حلاوة يكتب: أجازة دراسية
بيان
(١)
مايو ١٩٨١.. أخيرا أتت الأجازة الدراسية.. مباريات كرة القدم.. سهرات ليال الصيف.. رمضان لم يبق عليه سوي نحو شهرين ونصف.. بدا صيفا لطيفا هادئا مفعما بالآمال والوعود.. بضعة أسابيع وتظهر نتيجة الإمتحانات وأصبح طالبا بالمرحلة الثانوية.. سأصبح أخيرا من الكبار.. سأستبدل القميص الأبيض بالقميص السماوي.. أشار على صديقي أن أحلق ذلك الزغب في وجهي لينبت الشارب واللحية.. يجب أن يبدو مظهري ذو جلال وهيبة يتناسبان مع ما أنا مقدم عليه من مرحلة جليلة.
جاء يونيو بشمسه القائظة.. يمكن أن نلعب الكرة في ساعات النهار الأولى وساعات الغروب.. يجب دائما التكيف مع عوامل الطبيعة.. نذهب هناك حيث الأرض الخضراء – مساحة أرض خضراء شاسعة تحيط باستاد القاهرة الدولي محل نادي الزهور الآن – بعيدا عن صرخات الكبار الراغبين في النوم دائما والمنزعجين من صيحاتنا وعراكنا.. يالا هؤلاء الكبار المرهقين دوما بالنصائح والتوجيهات اللعينة.. هل هناك لعب بغير جلبة؟.. بغير ضجيج؟.. لم يعد لعب ” البلي” يناسبنا.. نحن كبار.. هل تفهمون؟.. نحن كبار.
الرابع من يونيو.. بشارة عريضة.. أخبرنا ” حمدي” ابن حارس البناية أن الجار المزعج قد سافر للمصيف شهرا كاملا.. يمكننا الآن اللعب في حديقة العمارة دون أن يخرج من النافذة صارخا “بفانلته” البيضاء والعرق الغزير يغطي صلعته مطالبا إيانا بالتوقف فورا عن اللعب.
أخذنا في حمل بعض قوالب الطوب بهمة لصنع ” العارضات”.. أصبح لدينا مرميين.. وضع ” حمدي” أصبعيه في فمه مطلقا صفارة عريضة مؤذنا ببدء المباراة.. خمسة دقائق كانت كافية لبداية الحدث الجلل.
فجأة سقط ” علاء” بلا حراك.. توقفت المباراة للحظات.. هل يكون الأمر كما أعتاد دائما بعصبيته الشديدة حركة احتجاج على النتيجة؟.. إتجهنا نحوه.. كان جسده ينتفض.. وقلبه يكاد يقفز من صدره.. عيناه تحلق في اتجاه غامض مجهول.. كانت تحمل ألف ألف سؤال بلا إجابة؟.. توقف جسده فجأة عن الحركة.. وعيناه مفتوحتان بتلك النظرة الذاهلة.. صاح ” حمدي”: “مدوا إيديكم معايا.. تعالوا شيلوه”.. أخذ يصفع على وجهه لبضع لحظات بلا فائدة.. كان الوجه قد تجمدت ملامحه.. ذلك الوجه الغاضب دوما.. الفم المنطلق بالاحتجاج قد خمد فجأة.. مات ” علاء”.
كانت المرة الأولى التي أخبر فيها الموت جهارا.. قال المسعفون أنها ” سكتة قلبية “.. كنت وسط الذهول أتساءل مالذي أصاب هذا القلب الصغير فجأة وجعله يسكت بلا نبضات؟.. كيف يستقيم خط ذبذبات نبضه بغتة مواريا الحياة معلنا الموت؟.. علمت من حينها أن الموت يمكن أن يصيب الصغار أيضا؟.. وتوقفت الأسئلة يأسا وظمأ في صحراء الإجابات الناضبة.
(٢)
في ذلك اليوم الحزين (٤ يونيو) .. كانت شوارع القاهرة مغطاة بالحرس.. إنه يوم زيارة السيد ” بيجن” لمصر واجتماعه مع الرئيس ” السادات”.. جولة جديدة من مفاوضات السلام المتعثرة.. لم نكن نبالي بالأمر حينها.. كنا منشغلين بمصابنا الجلل.. أقيم العزاء في اليوم التالي.. لم نأبه بقصف المفاعل النووي العراقي بالطائرات الإسرائيلية بعد العزاء بيومين.. ولا بأحاديث إذاعة ” ليبيا” بأن ” السادات ” كان يعلم.. ولا بنفي الرئيس ” السادات” وغضبه الشديد.. عاودنا لعب الكرة.. بعيدا عن الحديقة تلك المرة رغم سفر الجار المزعج.. شيئا ما كان يمنعنا من الأمر.. ربما الخوف.. وقد يكون جلال الحدث.. المهم أننا عدنا نلعب بذات الحماس.. الحياة لابد أن تستمر.
مر نحو عشرة أيام كانت كفيلة بعودة العنفوان والعفوية والبهجة.. عادت الضحكات والعراك أيضا.. غريب أمر ذلك الموت الذي يمضي متسربا هكذا من بين يدي الأحياء وأمامهم.. يخطف ويقطف بعض الزهور ويترك أخرى.. حتى ينفذ رحيقها وتموت عطشي ذابلة.
السابع عشر من يونيو ١٩٨١.. الدماء تسيل في شوارع المحروسة.. ” أحداث الزاوية الحمراء” كما أصطلح الإعلام على تسميتها.. ” مقتلة” دامية وسيفا مسموما إنغرز في قلب الوطن.. ما هي تلك الفتنة الطائفية التي يتحدثون عنها؟.. إننا لا نعرف كنهها.. ولا نبال بتلك الحواجز والفوارق الموهومة التي يصر عليها ذلك المجتمع المأزوم.. ” أبانوب ” و” فادي ” و” سامح “.. لم نشعر يوما بأن هناك شيئا يميزنا.. لا الملامح ولا الفكر ولا حتى الإنكسارات والأحلام.. كنا لا نفترق سوي في حصة ” الدين” عندما كانوا يغادرون الفصل متجهين نحو الأستاذ ” ألبير” أمين المعمل لتلقي الحصة.. كنا نسخر سويا منه وندبر له المقالب بتعطيل موقد “بنز”.. نضحك ونسلم على بعضنا البعض منتصرين وهو يحاول يائسا إصلاحه.. مالذي حدث؟.. وما الذي تغير؟.. كيف ومتى بدأ الصمت يلف الأحاديث وتخفت الضحكات؟.
بعض الهدوء الحذر يشوب الأجواء.. الأول من يوليو ١٩٨١.. ” تعلن دار الإفتاء المصرية أن غدا هو أول أيام شهر رمضان المبارك “.. الطقوس الحميمة تعود.. ” الفوانيس”.. ” الزينة”.. فرن ” الكنافة” و ” القطائف”.. برامج التلفاز والمسلسلات.. ” صيام صيام”.. فوازير ” الخاطبة”.. ” محمد رسول الله” و ” فؤاد أحمد” وقد طلي جسده باللون الذهبي وأداؤه الفريد لشخصية” هامان “.. تكوين الفريق المشارك في ” الدورة الرمضانية”.. عادت النفوس للسكني.. رغم قسوة الطقس وشدة الظمأ وسخونة الأحداث ورحيل ” علاء”.. تبقى أشياء وعادات تستحق الحياة.. نحبها ذلك الحب البائس من طرف واحد.. كلما أفضنا للحياة بسرنا ووهبناها عشقا.. فرت مخادعة مخاتلة.. تضحك ساخرة من بلاهتنا وحمقنا.. لكن لا مفر ولا مهرب من تلك السيرورة الأبدية ومسيرة السراب.. والعبث.
(٣)
مر العيد سريعا كما تمر كل الأيام الجميلة.. أغسطس يلفحنا بقيظه الحار.. التاسع منه.. الرئيس ” السادات” فى زيارة لقاطن البيت الأبيض الجديد السيد ” ريحان” ذلك الممثل المحدود و ” الكاوبوي” الذي أتى على حصانه للبيت الأبيض.. بدا ” السادات” حزينا مهموما.. لم يكن اللقاء كما يرغب.. ليس حميما ولا متفهما مثل صديقه كارتر (كما كان يحب أن يصفه).. قيل أنه ظل لوقت طويل يشرح له القضية العربية و ” ريحان” ساهما متبرما غير مباليا.. قال ” السادات “لمعاونيه ” الراجل ده شكله نايم على روحه”.
كان على ” السادات” أن يتعامل مع الوضع الجديد ويتكيف معه.. غريب حقا أمر هؤلاء القادة والرؤساء والعواهل وأصحاب الجلالة والفخامة والسمو العرب.. عليهم التغير والتأقلم مع كل ساكن عابث جديد لذلك الصرح المقدس، البيت الأبيض.
لم يكن الأمر يعنينا بقدر كبير.. كانت هناك الكثير من المشروعات المؤجلة بعد لم نتمكن من فعلها في الأجازة.. المصيف والبحر والرمال ورائحة هواء الإسكندرية.. ما لنا نحن والقادة.. لهم الفعل ولنا الأحلام المؤجلة.. دائما مؤجلة.. شهر ونيف وتمضي الأجازة.. لا بأس بالدراسة والزي الجديد والأصدقاء وقصة جديدة من الحب.. والشرود مع أغاني ” شبابيك” و ” أعذريني” وإذاعة ” أم كلثوم” فى تمام الخامسة مساء.. لكن يبقى للأجازة دوما سحرها وعاداتها المحببة.
سبتمبر عندما يأتي.. يحمل دوما معه نسمات الهواء العليل.. تبدأ أوراق الشجر في التساقط.. بداية حياة ونهاية حياة.. تصبح الأغصان جرداء لتزهو بالخضار من جديد بعد حين.. يبدأ الليل يطول ويتسيد ويقصر النهار صاغرا.. سبتمبر في القاهرة هذا العام أتى لاهبا لافحا.. كانت أحداث ” الفتنة الطائفية” تكبر وتتعاظم.. تأججت النيران تلتهم أساس شجرة وجود الوطن وبقاؤه وخلوده.. لاحت رياح الخوف تهب من كل الأرجاء والإتجاهات ثانية.. ساد الصمت أكثر وأكثر.. ما هذه البقعة البائسة من العالم التي كتب علينا أن نحيا فيها؟.. نحن أبناء الصراعات والتناحر وقشور الحضارة العصرية الزاهية.. الخوف من الغد يطغى في كل أرجاء الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج كما يقولون .. أن يمر اليوم في سلام قمة الرجاء والطموح.. السير بجوار الحائط والإلتصاق به.. يحدثوننا عن المستقبل.. المستقبل؟.. يبدو كأسطورة طائر العنقاء المحترق في كل حين…في كل الأجيال.. لا يحترق حتى يبعث من جديد.. لكنه يشتعل فقط حتى تبقى الأسطورة.. ويبقى، الأمل والإنتظار .. ويظل الحلم المراوغ يراودنا أبدا.. دون أن يتحقق أو يلوح شبحا.
كانت الحياة الآمنة والسلام والمحبة بين أبناء الوطن تعطي الأمل على الأقل.. الآن ينهار كل شئ.. بدأ الحديث عن التعايش بين عنصري الوطن هكذا.. إفتعال الفعل وإشتقاقه بدلا من وجود الفعل ذاته وكينونته.. منذ متى وكيف صرنا عنصرين؟.. ومن المسئول؟.. كنا نحصد نتاج عقد السبعينييات.. بداية المآلات لكل ما صار.. ونهاية البدايات لكل ما كان.
(٤)
الثالث من سبتمبر بدأت حملة من الاعتقالات طالت أكثر من ثلاثة آلاف شخص – وسائل الإعلام المتماهية تحصرهم في ١٥٣٦ شخص من المشاهير والأعلام ولا ذكر أو وجود للبقية – بعدها بيومين الخطاب العاصف ” للسادات” بدا غاضبا بشدة منفعلا للغاية.. بعيدا تماما عن الدبلوماسية واللياقة.. يشتم ويسب ويهين رموزا وأعلاما.. يهدد بحدة.. قال محذرا ” لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين”.
من سيدي الرئيس الذي تحالف مع الجماعات الملتحفة بالزي الإسلامي ليحارب اليسار والشيوعيين؟ – مصطلح الجماعات الإسلامية مصطلح مضلل ومفخخ للغاية.. من فتح الباب “للجهاد” فى ” أفغانستان” ضد ” السوفييت” الشيوعيين “الملاحدة”؟ – قصة التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية وباكستان قصة مثيرة للغاية مازلنا ندفع ثمنها حتى اليوم.. من أطلق على نفسه لقب الرئيس ” المؤمن”؟.. من يستغل ويوظف الدين إذا؟.
لم يجرؤ أحد حينها على طرح تلك الأسئلة.. ألم أقل إننا في بقعة بائسة من العالم؟.. الدين فيها مطية.. نستخدمها حينا ونواريها أحيانا أخرى.. حتى طغت المظاهر وخفت الجوهر.. و لوثنا الثوب الأبيض بالأغراض والدنس.. التصفيق الحاد من ممثلي الشعب.. إذا لابد أن الرئيس علي صواب.. الرئيس دوما على صواب.. كنت شاردا.. انتبهت و ” حمدي” يناولني ” شريط فيديو” عن فظائع ” السوفييت” وبطولات ” المجاهدين” الأفغان.
الرمال ناعمة والبحر هادئ في شواطئ الإسكندرية… لا أحد يلحظ الأعماق التي تمور.. ” الأهرام” عنونت قرارات الرئيس في اليوم التالي بعنوان عريض يقول ” ثورة العمل الداخلي”.. أما ” الأخبار” فقد أختارت عنوان ” قرارات ضرب الفتنة”.. كارثة الميديا الخانعة والمثقفين لاعبي السيرك أنهما يعمقان حجم الأزمة.. لا ينطقان ولا يرددان سوي نغمة الجوقة السائدة.. تذكرت قول ” لينين”: ” المثقفون أقدر الناس على ارتكاب الخيانة.. لأنهم أقدر الناس على تبريرها “.. مقولة يثبت صدقها من الأزل إلى الأجل.
الحادي عشر من سبتمبر حفل ” خوليو إيجليسياس”.. الأمور هادئة ومصر قبلة الفن والسياحة.. ثلاثة أيام من بعد ويتم افتتاح “مهرجان الإسكندرية السينمائي”.. كوكبة من النجوم والنجمات يحضرون الفعاليات.. الأجازة تمضي بسرعة البرق..
ثلاثة أسابيع وتأتي ذكرى أكتوبر ١٩٧٣.. بعدها بأيام قليلة ” عيد الأضحى ” المبارك.. تلاميذ وطلاب ” مدينة نصر” يملكون ميزة فريدة هي تأخر موعد دخول المدارس حتى نهاية العرض العسكري.
أتى يوم العرض العسكري وانطلقت الرصاصات تخترق جسد الرئيس الراحل ” السادات”.. رحل” السادات” كما رحل ” علاء”.. الفارق أنه لم يكن أمام عيناي تلك المرة.. وكان هناك من الأحداث والتفاعلات ما ينبئ وينذر بالحدث.
وفي الرابع عشر من أكتوبر تولي الرئيس الراحل ” مبارك” الحكم بعد استفتاء سريع.. وأفرج عن أغلب المعتقلين في الخامس والعشرين من نوفمبر ١٩٨١.. وأنطلقت الصحافة تبشر بعهد جديد.. وراودتنا الآمال مرة أخرى بوطن جديد.. وحلم وليد.. ولكن يبدو أنني نسيت قول المتنبي ” ليس كل ما يتمناه المرء يدركه”.
طوي عام من عمر الزمن.. ومضت أعواما وعقودا بعده.. مرت بين حلم وأمل.. يأس وقنوط.. لكنها هكذا تمضي الأعمار متراوحة بين الشعور ونقيضه.. تطارد حلما يتبخر دوما.. وأملا لا يتحقق أبدا.
” لا تحلموا بعالم سعيد..
فخلف كلّ قيصر يموت..
قيصر جديد..
وخلف كلّ ثائر يموت..
أحزان بلا جدوى..
و دمعة سدى..”.
( أمل دنقل كلمات سبارتكوس الأخيرة)