محمد قدرى حلاوة يكتب: يوميات الأضحي ١٩٨١

بيان

(١)

السابع من أكتوبر عام ١٩٨١.. وقفة عيد الأضحى المبارك:
رغم الحدث الصادم باغتيال ” الرئيس، السادات” في اليوم السابق وإعلان حظر التجول .. فقد شهدت المخابز والمجمعات الإستهلاكية ازدحاما شديدا.. مطالب الحياة لا يمكنها أن تتوقف أو حتى تتريث أمام أي حدث مهما بدا جليلا.. لا شئ يمنع المصريين من الإحتفاء بقدوم العيد والإحتفال به.
طابور طويل مزدحم.. بضعة مناوشات بين المصطفين.. “لو سمحت أقف في دورك.. أنت مش شايف إنه فيه طابور ولا إيه؟”.. صاح أحدهم.. توترت الأعصاب فأتبري أحد كبار السن وهو يسعل ناصحا ” يا جماعة اسنحملوا بعض.. دقائق وهنمشي كلنا”.

أخيرا أتت عربة توزيع اللحوم .. نزل قائدها وقد أخذ يمسح عرقه ونظر شذرا نحو الجمع وصرخ في وجوههم: ” وسع أنت وهوه إلا والله العظيم ما أنا منزل البضاعة “.. بدا الجمع المرتص يفسح الطريق مبتلعين ألسنتهم وهم يشيحون بوجوههم عنه.

بضعة مناوشات صغيرة نشبت عندما حاول البعض الإندساس في الطابور لحظة تراجعه.. أستلم ” عم نبيل ” البائع العجوز بعضا من كراتين اللحوم وصاح هو الآخر زاعقا: ” كل واحد اثنين كيلو اللي كان بيأكلكم مات “.. كانت هناك كراتين أخرى تجد سبيلها بهدوء إلى ركن منزو داخل المجمع في طريقها إلى السادة الكبار المحظيين وسط صمت الجميع.

زحمة الطابور توفر جنيهين على الأقل من ثمن شراؤها من محلات الجزارة.. في ” سرادق” صغير كانت الخراف” الصومالية ” الهزيلة والبلدية ” السمينة ” يعلو صوت ثغاؤها وهي تلهو غافلة عن مصيرها الأخير.. تقيد وتلقى في ” شنطة” السيارات ” التمساحة” و “الخنزيرة” و ” الفولفو” الواقفة.. ” مفيش فكة.. خدوا بالباقي سكر ولا رز”.. لم يعترض أحد.

” عم نبيل ” أحد الفراعين الصغار.. لا أحد من الجموع المرتصة في موكبه (الطابور) يجرؤ على الإعتراض.. ” شوية نظام يا همج” صاح القصاب وهو يهوي ” بساطوره” على أحد الأضلاع المكتنزة.. بالتأكيد يمكنك تجاهل الأمر.. هو لا يعنيك أنت.. يشير إلى هؤلاء الذين يشتبكون بالأيدي في مؤخرة الطابور.. تبقى لحظات قليلة يمكنك أن تحتفل بالإنتصار بعدها وأنت تحمل تلك ” اللفة” البنية اللون المحتوية على قطع اللحم الشهي.. ثم أنه ليس الطابور الوحيد.. في ركوب المواصلات.. في استيفاء الأوراق في المصالح الحكومية.. في الحصول على الخبز.. هل لهذا يعلمونا الإنتظام في صفوف في المدارس منذ الصغر.. ربما؟.
بدأت ساعات حظر التجول.. إذاعة” ليبيا” تحتفل ” بالبطل” المظفر ” خالد الإسلامبولي” ورفاقه _ الخلاف السياسي يمكنه تحويل القتلة إلى أبطال .. هل هناك دور ” القذافي” أو ” كارلوس” أو ” الجماعات الفلسطينية” في الأمر؟.. لا أحد يعلم.. الصورة ما تزال غائمة.

أخذت أتصفح جريدة الأخبار وأتأمل الصور الفريدة التي ألتقطتها عدسة ” مكرم جاد الكريم”.. كيف تمكن القتلة من إتمام الأمر بمثل تلك السهولة؟.. أسئلة كثيرة وملابسات أكثر عن حادث الاغتيال لم تجد إجابات مقنعة او تفسيرات بعد.. تناولت طعام الإفطار بعد صيام يوم طويل.

يملؤني الأسف على هذا العيد الضائع جراء الحدث الجلل وحظر التجول.. لن نتمكن من زيارة الأقارب.. نحن محاصرون علي بعد مسافة قليلة من موقع الحادث.. كان على أن أتأقلم علي التضحية باللعب مع الأقارب.. وتوقع الانخفاض المزري في حصيلة ” العيدية”.. إنها أقل تضحية يمكن أن أقدمها للوطن في تلك الظروف والأحداث الجسام.

(٢)

الثامن من أكتوبر عام ١٩٨١:

كانت العقول لم تزل في حالة صدمة.. والقلوب وجلة.. والتساؤلات لا تنتهي عن مصير الوطن.. منذ ظهيرة السادس من أكتوبر ونحن رهينة المحبس.. لا نستطيع مغادرة المنزل.. الحادث (إغتيال الرئيس السادات) وقع على بعد مئات الأمتار فقط من البناية.. تم إعلان حظر التجول.. رجال الأمن الرسميين والسريين يملأون الشوارع.. تم القبض على القتلة نعم – مازال أحدهم فارا – لكن أبعاد الحادث وحجمه وأنصاره وداعميه لم يزالوا في طي الكتمان بعد.
كانت الأسماع مشدوهة نحو الإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية.. ” البي بي سي”.. ” مونت كارلو”.. وحتى إذاعة ” إسرائيل”.. مأساة أن تعرف أخبار وطنك من أعدائك ومستعمريك القدامى.. لكن التلفاز المصري والراديو لا يعلنان شيئا.. بل بدا أنهم يخفيان كل شئ.

أنباء عن أحداث عنف دامية في صعيد مصر بمحافظة ” أسيوط” صبيحة يوم عيد الأضحى المبارك.. جماعات من تنظيم ” الجهاد ” هاجمت مبنى مديرية الأمن وأقسام البوليس وقتلت العشرات من جنود وضباط الشرطة..كان مخطط جماعة ” الجهاد” بائسا مبنيا على حسابات خاطئة هشة.
احتلال ” أسيوط” وإعلان ” الدولة الإسلامية” ثم الإنطلاق منها لباقي المحافظات صانعين ثورة شعبية تسقط النظام القائم.. مهما بدت الخطة خيالية غائمة محلقة في الخيال.. إلا أنها في ذلك الوقت تحديدا فقد لاحت خطرة ومنذرة ومثيرة للقلق وخصوصا في حالة الغموض والسيولة التي كانت تمر بها البلاد.
نجحنا في إقناع الأهل بالنزول إلى الشارع مع الوعد والتوكيد بأن نظل في الحديقة أمام البناية لا نتجاوزها.. هل يمكن أن يمر العيد دون أن نلهو ونلعب؟.
أخذنا نجري ونصيح وكأننا نفرغ طاقتنا المحبوسة المعتقلة يومين خلف جدران المنزل.. لم نشعر بالوقت سوي، بعد أن تقدم نحونا أحدهم بملامحه الصارمة وملابسه القاتمة وهو يسألنا بصوت خشن: ” إيه اللي منزلك يا ابني أنت وهوه في الشارع وفيه حظر تجول؟.. بطايقكم”.. فكرنا للحظات أن نطلق ساقينا للريح لكن صرامة وجهه ووقوفه أمام باب البناية منعنا من تنفيذ الفكرة .. كان أكبرنا سنا يبلغ ١٥ عاما.. لم نبلغ السن القانونية لاستخراج البطاقه الشخصيه بعد.

تقدم أحدنا نحوه قائلا: ” إحنا ساكنين هنا – وأشار إلى البناية – ولسه مطلعناش بطايق.. إحنا معملناش حاجة غلط.. بنلعب.. عيد بقى حضرتك”.. زالت ملامح الصرامة التي تفرضها مقتضيات المهنة من على وجهه .. وحلت محلها ملامح أبوية حانية وربت على كتف صاحبنا قائلا: ” كل سنة وأنتم طيبين.. بس متتحركوش من قدام العمارة.. الدنيا قلق.. والجو ملبش.. ومحدش عارف بعد ساعة فيه إيه ممكن يحصل.. النار يابني لما بتولع بتحرق كل اللي حواليها.. مبتفرقش بين زرعة صغيرة وشجرة عجوزة”.. أعطانا ظهره وانصرف مشعلا سيجارة وقد زادنا حديثه قلقا على قلق.

(٣)

التاسع من أكتوبر عام ١٩٨١:

تم القبض على ” عطا طايل حميدة” أحد المشاركين في اغتيال الرئيس الراحل ” أنور السادات” بعد أن تمكن من الهروب من ساحة العرض العسكري بعد الفوضى والهرج والمرج التي سادت هناك.

برامج ” التلفاز” في ثاني أيام عيد ” الأضحى” المبارك يغلب عليها الحداد، كان هناك قناتين فقط للبث التلفزيوني – قبل عصر الساتالايت – لم تعرض ” مدرسة المشاغبين ” ولا” العيال كبرت” ولا أيا من تلك المسرحيات الشهيرة التي كانت تعرض في العيد للترفيه عن المواطنين، كانت تستخدم أيضا لإلهاؤهم.. فقد عرض التلفزيون المصري مدرسة المشاغبين أثناء أحداث إنتفاضة الخبز في ١٨ و ١٩ يناير ١٩٧٧ لجذب اهتمام الجماهير وتغشية عقولهم بعيدا عن الأحداث الساخنة التي تدور في الميادين والشوارع.

لم يعد هناك وسيلة للترفيه سوي ” الراديو”.. الأنباء تعلن عن بدء عودة الهدوء في محافظة ” أسيوط” بعد الأحداث الدامية بالأمس وزيارة قيادات أمنية كبيرة للمحافظة على رأسهم “النبوي إسماعيل” وزير الداخلية الأسبق.. حملات الإعتقال والقبض على أعضاء تنظيم ” الجهاد” مستمرة في كافة أنجاء البلاد.
تمكنا من إقناع الأهل من النزول للشارع مرة أخرى بذات الوعود والضوابط رغم الاستعدادات الأمنية المكثفة البادية في كل حدب وصوب إستعدادا لمراسم جنازة الرئيس الراحل.

وكانت مباراة حامية نارية في الكرة.. ركلة قوية ذهبت بالكرة بعيدا إلى عرض الشارع.. رأينا الرجل الصارم الغامض يهرول نحوها ثم أخذ ” ينطق” الكرة مستعرضا مهاراته.. بدت لمحات مهارة قديمة.. ثم قدم نحونا وقذفها قذفة هائلة نحو المرمي أسقطت حجر ” العارضة” محرزا هدفا رائعا.. كأنه كان يلقى بكل توتره ومخاوفه طوال الأيام السابقة.. وابتسم لنا قائلا: ” هوه ماتش مصر الجاي مع مين يا شباب ؟”.

كانت مصر قد تأهلت إلى دور الثمانية في كأس العالم للناشئين المقامة بأستراليا.. واتخذ قرارا بإستمرار اللعب والمنافسة رغم مطالبات البعض بالإنسحاب نظرا للحدث الجلل .

صرنا أصدقاء إذا.. يمكننا اختراق قواعد حظر التجول دون خشية.. ثمة خوف مازال يسكن.. لكن حالة من الهدوء الغريب كانت تطغى على المجتمع رغم كل الأحداث الساخنة.. هل هي سكينة الأعياد؟.. الاستسلام القدري المعهود؟.

البعض رأي أن اعتقالات ” سبتمبر” الفائت التي طالت كل فئات وطوائف المجتمع وأججتتها.. لم تسهم في ظبط الجبهة الداخلية كما كان يأمل الرئيس الراحل.. بل صبت المزيد من الجمر على البركان المشتعل.. زادت مشاعر الترصد والعداء بين فئات المجتمع.. بدا الناس حينها مستسلمين للغاية لحادث الاغتيال.. بل ولاح أيضا بعضا من مظاهر الإرتياح فقد يأتي العهد الجديد بسياسات وقرارات تزيل الإحتقان وتتصدي لمطاهر التطرف والإرهاب.

وكان ” أولادي المغرر بيهم” كما كان يصف الرئيس الراحل أعضاء الصفوف الدنيا في جماعات التكفير والتطرف في خطابه الشهير في الخامس من سبتمبر ١٩٨١.. وهم من وعد قائلا: ” هأديهم فرصة تانية”.. كانوا هم بعد أن أعتقل الرؤوس من أغتالوه.. وكانت الفرصة الثانية الممنوحة لهم هي فرصته الأخيرة والرصاصات التي صوبت نحو جسده.

(٤)

العاشر. من أكتوبر عام ١٩٨١:

جنازة الرئيس الراحل ” أنور السادات”.. ثالث أيام عيد الأضحى المبارك.. ممنوع النزول من المنازل نهائيا.. بل يحظر فتح النوافذ.. رجال الشرطة السريين ينتشرون على الطرقات في كل أرجاء البناية الضخمة.. يقفون على الأسطح يرقبون كل شاردة وواردة.

” مناحم بيجين” رئيس الوزراء الإسرائيلي يشارك في الجنازة.. سوف يأتي مشيا على قدميه من محل إقامته في فندق ” سونستا” بشارع “الطيران” حتى “النصب التذكاري للجندي المجهول” حيث، سيواري التراب جسد الرئيس الراحل ” السادات”.
” بيجين” صائم بمناسبة يوم كيبور (الغفران) .. محرم عليه ركوب وسائل المواصلات.. لذا فهو سيأتي ماشيا.. يالا الورع !.. أليس هو ذاته الرجل الذي تقطر من أياديه دماء ضحايا ” دير ياسين ” وغيرها؟.. هل ممارسة الطقوس الدينية فقط يكفي للخلاص وحتى تستحق وصفك كإنسان حقا؟.. لا يهم الآن.. هو حاصل منذ عامين على جائزة نوبل للسلام.. التاريخ يمحو وينقي السيرة ويغسل الأيادي الملوثة بالدماء والسمعة أيضا.

أخذت أنظر من بين خصاص النافذة بحذر.. لم أستطع أن ألمح هذا الرجل القصير المتغطرس بعويناته الطبية العريضة بيجين.. كان حشدا من الحرس وبعض “الموتيسيكلات” والمركبات المدرعة تتقدم الموكب.

الشارع خالي تماما سوي من قوات الأمن.. وبعض الكلاب والقطط التي كانت تجري في مرح غير عابئة بما يحدث حولها مستغلة فرصة خلو الشارع من المارة.
” التلفاز” يعلن بدء مراسم الجنازة العسكرية.. مئات من المشيعين يمضون خلف النعش بخطوات وئيدة منتظمة.. ثلاثة رؤساء أمريكيين سابقين ” فورد” و ” نيكسون” و ” كارتر” شريكه في ” كامب ديفيد”.. ضيوف أجانب كثر.. ” هيلموت شميت”.. ” كرايسكي” وغيرهم.. قليل من المشيعين العرب.. بضعة مئات من الساسة والعسكريين المصريين.. نائب الرئيس ” حسني مبارك” يتقدم بجسده العريض ويده المربوطة برباط طبي ونظارته السوداء ليقدم العزاء للسيدة” جيهان السادات ” وجمال نجل الرئيس الراحل وبناته.. المذيع يتحدث بصوت متأثر عن مناقب الفقيد والموسيقى العسكرية تدق الطبول وتنفخ الأبواق.

مضت أحداث الجنازة سريعا.. وبدأت أحوال البلاد تمضي نحو الهدوء بعد. القضاء على الأحداث الإرهابية في أسيوط.. لم يبق سوي يوم واحد وينتهي عيد الأضحى.. كان عيدا مشوبا بالقلق والحذر.

أربعة أيام من الإعتقال القسري خلف جدران المنزل – إلا ما ندر – سبق أن أقمنا خلف جدرانه في ذات العيد عام ١٩٧٧.. برغبتنا تلك المرة.. نراقب الرئيس الراحل ليلة الوقفة وهو يهبط في “تل أبيب” هاشا باشا باسطا ذراعيه للأعداء .. يصلي صلاة العيد في رحاب الأقصى.. يلقى خطابه الشهير في ” الكنيست”.
تري هل كان من قبيل الصدفة البحتة أن تكون زيارته للقدس ووفاته في المنصة في ذات الأيام.. ذات العيد؟.
لم تمنع الأحداث الجسام جموع المصريين من ممارسة طقوسهم المعتادة في الأعياد.. تناولوا المرق ولحم الضأن والثريد.. بالتأكيد منعتهم من الإنطلاق في الطرقات والتزاور والتجمع.. كانت الحصيلة ” عيدية” بائسة وأحلام باللهو والمرح ضائعة.

يوم واحد فقط قد تبقى من العطلة لتبدأ بعده الدراسة.. كان عيدا ليس ككل الأعياد.. الآن أنتقل إلى الصف الأول الثانوي.. مرحلة جديدة وزي جديد.. كل ذلك وسط حالة من الإلتباس والتوتر والانتقال من عصر إلى أخر لم تبدو ملامحه بعد.. كان الشارب الغض الصغير قد خط طريقه في وجهي في بداية عصر ” مبارك”.. وشاب في عصره أيضا.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى